إلى الآن، تمُرّ خطوة عبد الفتاح البرهان، تشكيل مجلس سيادة جديد في السودان، بـ«سلاسة»، على الرغم من أنها استدعت ردود فعل داخلية وخارجية متباينة. إلّا أن ثمّة مَن يرى في كلٍّ من الفعل وردّ الفعل «سيناريو مثالياً» للتمهيد للعودة إلى ما كان عليه المشهد السياسي قبل 25 تشرين الأول. ضمّ المجلس السيادي الجديد 13 عضواً (بِمَن فيهم البرهان رئيساً، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائباً للرئيس)، من بينهم 9 كانوا في المجلس السابق، و4 جدد حلّوا محل المنتمين إلى قوى «الحرية والتغيير» في المجلس السابق، فيما تمّ تأجيل تسمية ممثّل شرق السودان إلى حين إجراء «مزيد من المشاورات»، على ما أعلن التلفزيون السوداني. وعلى الرغم من كون معظم أعضاء المجلس الجديد هم من المشاركين في المجلس القديم، إلا أن مقرّبين من البرهان يثنون على التشكلية الجديدة على اعتبار أنها «تراعي التنوّع الإثني والجهوي بعيداً عن الاعتبارات الحزبية» التي كانت متّبعة في تشكيل المجلس السابق.سريعاً، أعقب البرهان خطوته بأخرى ذات دلالات أيضاً؛ فبعد ساعات على إعلان تشكيل مجلس السيادة، قرّر إنهاء تجميد عدد من المواد في الوثيقة الدستورية، تتعلّق بالمجلس وصلاحياته ومهامه، ومجلس الوزراء ومهامه، مستثنياً عبارة «الحرية والتغيير» من كلّ البنود التي أنهى تجميدها. ولاحقاً، شدّد البرهان على ضرورة الإسراع في تشكيل «حكومة كفاءات مدنية ديمقراطية» تمثّل تطلّعات الشعب. وتأتي هذه الإجراءات المتسارعة بالتزامن مع ضغوط سياسية واقتصادية تُمارَس على العسكر من أجل التعجيل في «إعادة بناء الشراكة مع المدنيين»، وإرساء «تسوية تعيد المسار السياسي في البلاد إلى ما كان عليه قبل انقلاب 25 تشرين الأول»، على ما تقول مصادر دبلوماسية مواكبة لـ«الأخبار».
لا يمانع الأميركيون، في إطار تلك التسوية المفترضة، بقاء العسكر على رأس السلطة في السودان، شرط عدم تفرّدهم فيها، وبالتالي إعادة الحياة للوثيقة الدستورية التي تمّ إقرارها إثر الإطاحة بسلطة عمر البشير في آب 2019، والتي تضمّنت صيغة الحُكم في الفترة الانتقالية عبر تقسيم السلطة بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء المشكّلَين من خليط من العسكر والمدنيّين. لكن مشكلة البرهان مع الوثيقة الدستورية، تكمن في الشقّ المتعلّق بالتمهيد لتسليم السلطة إلى المدنيين عند انتهاء المرحلة الانتقالية. وهذا ما يفسّر عدم الجديّة لدى العسكر في نقل السلطة ضمن المهل الدستورية، واستمرار خلق الأزمات ومفاقمتها بما يخدم هدف تحويل الوضع الانتقالي إلى وضع دائم.
لا يمانع الأميركيون بقاء العسكر على رأس السلطة في السودان شرط عدم تفرّدهم فيها


اليوم، يحاول البرهان وصَحبه، عبر إنتاج مجلس سيادة جديد، إعادة المدنيين إلى واجهة الحُكم، لكن مع ضمان أن تكون مشاركتهم هذه «شكلية وغير فاعلة». وعليه، ترجّح المصادر أن لا يمانع البرهان عودة عبد الله حمدوك إلى رئاسة الحكومة في الفترة الانتقالية الجديدة، على أن يُشكّلها من غير المسيَّسين (التكنوقراط)، مشيرة إلى أن هذا الأمر كان موضع بحث موفدين من البرهان، التقوا حمدوك في الأيام الأخيرة. إبقاء السلطة في بيد العسكر هو هدف دائم في السودان، على اعتبار أنه في سياق التعاقب على السلطة على مدى 65 عاماً من عمر الاستقلال، خضعت البلاد للحُكم العسكري طيلة 53 عاماً. وبالتالي، فإن ما يسعى إليه اليوم البرهان وفريقه، ينسجم تماماً مع السياق التاريخي لتداول الحُكم في البلاد، وهو وفقاً للظروف الراهنة، يلائم النموذج الذي يحاول المعسكر الأميركي - الإسرائيلي وفريقه العربي تطبيقه في المنطقة بعد موجات «الربيع العربي»، بما يخدم الهدف الكبير المتمثّل في إعادة بناء النظام الإقليمي وفق حسابات وأولويات يرسمها هذا المعسكر، وعلى رأسها إدخال النظام الرسمي العربي في مسارات التطبيع كعنوان أساسي للمرحلة المقبلة.
ما يجري في السودان ليس معزولاً عمّا يجري في الإقليم، فالبلاد تقع على رادار الأزمات التي تعصف بدول وجيوش ومجتمعات يُراد لها أن تتغيّر جذرياً، في سياق مخطّط ترعاه الولايات المتحدة الأميركية، بالشراكة مع إسرائيل وبالتواطؤ مع دول عربية معروفة الدور والوظيفة، وهي دول للمصادفة يتنامى نفوذها في السودان بشكل عميق ومتسارع، حتى باتت خيارات الفريق الحاكم في السودان، بصرف النظر عن هويته المدنية أو العسكرية، مرتهنة بشكل كامل لإملاءات هذه الأطراف، وإنْ بنسب متفاونة بطبيعة الحال. ومن هنا، شكّل انخراط أهل الحُكم في السودان في مسارات التطبيع مع إسرائيل، بلا ضوابط ولا هوامش ولا حتى حسابات تتعلّق بالمصلحة السودانية حتى لو كانت ظرفية، نموذجاً واضحاً لالتحاق «السودان الجديد» بالركب العربي الذي ينفّذ أجندة المعسكر الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة.
بالنتيجة، يحتدم الصراع بين الرافضين لإجراءات البرهان الأخيرة والمؤيدين لها. وعلى أساس هذا الصراع، ينقسم المشهد السوداني بين «العسكر» بداعميهم الخارجيين، و«المدنيين» بداعميهم الخارجيين أيضاً، فيما تقبع البلاد في قلب أزمة متشّعبة متعدّدة الأبعاد تضع المسؤولين فيها أمام خيارين: إمّا الذهاب نحو تسوية هشّة ومؤقّتة، أو الدخول في صراع مفتوح مجهول النهايات والتداعيات.