غزة | "يُمّا المركب غرق، والشباب إلي معي أكلهم السمك يُمّا... أبو أدهم غرق يُمّا". هذا هو متن الرسالة الصوتية القصيرة التي وصلت إلى هاتف والدة الشاب يحيى بربخ (26 عاماً)، بعد انقطاع أخباره لستّ ساعات متواصلة، كانت تظنّ الخمسينية سوسن، في خلالها، أن ابنها استطاع عبور البحر الفاصل بين الأراضي التركية واليونانية، وبات في عهدة الأجهزة الأمنية هناك، تمهيداً لتسكينه في واحد من مخيمات اللجوء. آمالٌ كبيرة منّاها بها بكرها خلال الشهور التي قضاها محاولاً إقناعها بمغامرته الكبيرة: "رح أقبر الفقر يمّا، هدوء وتأمين صحّي وضمان اجتماعي"، أمّا الطريق إلى بلاد الأحلام الهانئة، فـ"مُؤمّن، والمئات وصلوا إلى بلجيكا بدون مخاطرة". ذلك الانطباع الوردي الخادع لم يكن مقنعاً للأم، ولا حتى ليحيى والمئات من أبناء القطاع، لكن انعدام فرص العمل، واستحالة الحصول على لقمة العيش، جعلا من الهجرة بهذه الطريقة بوّابة الأمل الوحيدة، في بلاد تفصل بين حروبها المتتابعة سنوات مثقلة بالأزمات.غير أن الرياح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، إذ اصطدمت الآمال الكبيرة، منتصف ليلة الجمعة الماضية (5/11/2021)، بالنهاية المأساوية. فبعد ثلاث محاولات تهريب فاشلة، انتهى الحال بيحيى ومجموعة من أقاربه من عائلات بربخ والفرا وأبو ارجيلة، غرقى في عرض بحر إيجه. تقول الأم التي اختلطت عليها مشاعر الحزن على فشل مساعي نجلها، والفرح بنجاته من الموت، إن انعدام فرص العمل، وعدم قدرة ابنها على توفير لقمة العيش لعائلته دفعاه إلى الهجرة، تتابع: «يحيى هو أكبر إخوانه، وقد ربّيتُه بعد وفاة والده وهو طفل، وقد خرج من القطاع بعدما فقد الأمل في الحصول على لقمة عيش كريمة تغنيه عن حاجة الناس"، ثمّ تردف وهي تحسر عن ابتسامة بين الدموع: "كان نفسه يقبر الفقر". وتستكمل قائلة: "لو كان سعيداً في بلاده، لما ترك زوجته وطفلَيه وعائلته وغادر، يحيى يجيد عدّة مهن، لكن لا يوجد له عمل أو دخل ثابت (...) يحيى فضّل الهجرة عبر رحلة محفوفة بالموت، هرباً من هذا الواقع".
وبحسب مصادر في الجالية الفلسطينية في تركيا، فإن المركب المتهالك كان يقلّ على متنه 22 شاباً، 11 واحداً منهم يحملون الجنسية الفلسطينية، وقد غرق في البحر الفاصل بين الأراضي التركية واليونانية. وأمام ما تمّ تداوله ابتداءً من معلومات شحيحة عن واقعة الغرق، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالإشاعات، وفتحت عائلات المهاجرين بيوتها للمعزّين، في انتظار خبر يقيهم مرارة الانتظار. "ساعات الليل كانت ثقيلة... يقول من نجا إن ثلاث ضحايا غرقوا فيما نجا الباقون"، يقول أبو رأفت المدهون متحدّثاً إلى «الأخبار»، وقد كان نجله الأكبر واحداً من الذين استقلّوا ذلك المركب، ويتابع: "اتّصلنا بكلّ من استطعنا الوصول إليه هناك، لم تكن لدينا أيّ معلومة عن مصير ابننا، وممّا زاد الطين بلة، أن الأنباء بقيت متضاربة، وأن من استطاع أن يطمئن ذويه، أخبرهم بوجود غرقى". وبعد ساعات قاسية من صمت السفارة الفلسطينية في أنقرة، أصدرت بياناً مقتضباً طمأنت فيه ذوي الغرقى، مؤكدة أنه جرى إنقاذ جميع من كان على متن القارب، غير أنه وفي مساء اليوم نفسه، أعلنت عائلة الفرا نبأ وفاة ابنها نصرالله (أبو أدهم).
قرابة ساعتين قضاهما من استطاعوا النجاة وهم يصارعون أمواج البحر الهائجة


رحلة الموت
قرابة ساعتين قضاهما من استطاعوا النجاة وهم يصارعون أمواج البحر الهائجة، إذ انطلقت الرحلة في ظروف جوّية عاصفة، اضطرّ الشبان للمجازفة فيها، أملاً في مغافلة أجهزة الأمن التركية التي أفشلت عدّة محاولات سابقة لهم.
وفي وقت لاحق من مساء يوم الأحد الماضي، أعلن فايد مصطفى، وهو السفير الفلسطيني في أنقرة، أن السلطات التركية تمكّنت من إنقاذ ثمانية شبان فلسطينيين من قطاع غزة، فيما تبيّن لاحقاً أن البحر ألقى بجثمانَي اثنَين من المفقودين على السواحل التركية. إزاء ذلك، ناشد الناشط الفلسطيني في تركيا، وائل موسى، الشباب عدم خوض هكذا مغامرات، حيث إن المهرّبين لا يرون في طالبي اللجوء إلّا مبلغاً مالياً يحاولون تحصيله بأيّ طريقة، بدون الالتفات إلى الأخطار المحدقة بحياتهم. وتابع موسى، في مقطع مصوّر جرى تداوله على نحوٍ واسع في مواقع التواصل: "المهرّب لا يرى في طالب الهجرة إنساناً لديه زوجة وأم وأبناء يخشون على مصيره، هم يرون فيه 1500 يورو، يقنعونك في سبيلها بأن الرحلة آمنة ولا تستغرق سوى 20 دقيقة للوصول إلى أرض الأحلام". وبحسب موسى، فإن من ينجح في عبور البحر ويتمكّن من الوصول إلى اليونان، يُحتجز فور وصوله في مخيمات لا تليق بحياة الحيوانات، غير أن إمكانية حصول الفلسطينيين تحديداً على اللجوء في دول مثل بلجيكا والنرويج، تبدو صعبة للغاية. وهنا، يَذكر الناشط الفلسطيني أن نسبة رفض طلبات اللجوء التي يقدّمها الفلسطينيون في دولة مثل بلجيكا مثلاً وصلت إلى 62%.

صمت فصائلي
ووسط السخط الشعبي ونقمة الشارع، اختارت الفصائل الفلسطينية أن تلتزم الصمت، قبل أن تُصدر "الجبهة الشعبية" بياناً لفتت فيه إلى أن "هذه الفاجعة دافعها هو فقدان الأمل والمستقبل الذي تسبّبت فيه سنوات طويلة من العدوان والحصار الصهيوني والانقسام في القطاع، أدّت إلى تفاقم الأوضاع المعيشية وتزايد معدّلات البطالة، وخصوصاً بين آلاف الشباب والخرّيجين ما أدى إلى فقدانهم الأمل، والرغبة في محاولة البحث عن طوق نجاة لهم في الخارج من هذا الوضع الكارثي". وطالبت الجبهة، القوى الوطنية كافة، بتحمّل "واجباتها الوطنية والديمقراطية والإنسانية والمعيشية، وخلق حلول عملية تفتح أبواب الأمل والعمل والحياة لهؤلاء الشباب بدلاً من الهجرة". ومن جهتها، قدّمت السفارة الفلسطينية في تركيا تعازيها لعائلات الضحايا، وأعربت عن استعدادها للتكفّل بتأمين وصول جثامين الضحايا إلى أرض الوطن، في خطوة أثارت جملة من المشاعر المتناقضة، إذ رأى المعلّقون أن الفلسطيني لا يكُرَّم إلّا في موته.

الهجرة لا تزال خياراً
آخر الإحصائيات التي أجراها "الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء" أكدت أنه على رغم المخاطرة التي تحيط بالهجرة غير الشرعية، إلّا أن ما نسبته 37% من الشبان في قطاع غزة (15 - 29 عاماً) لديهم الرغبة في الهجرة إلى الخارج. وهو واقعٌ دفع "الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني" إلى إطلاق مبادرة شعبية لتوعية الشباب والعائلات بمخاطر الهجرة غير الشرعية. ومن الجدير ذكره، هنا، أن نسبة الفقر ارتفعت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى 80%، فيما بلغت نسبة الأسر التي تعيش حالة من الفقر المدقع - تعتاش على 2دولار يومياً - 35% . ووفقاً للخبير الاقتصادي، محمد أبو جياب، فإن أكثر من 360 ألف أسرة تعيش في قطاع غزة، فقد معيلوها أعمالهم؛ إمّا بفعل إغلاق باب العمل في الداخل المحتلّ عقب عام 2002، أو بسبب تدمير المنشآت الاقتصادية التي كانت توفّر فرص عمل لقرابة 170 ألف عامل.