تونس | وفق تقرير رسمي حول الميزانية العامة لتونس صدر في شهر أيلول المنقضي، من المتوقّع أن يبلغ عجز الموازنة 7.94 مليارات دينار (2.85 مليار دولار) في عام 2021، أي 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب التقرير الذي أصدرته وزارة الاقتصاد والمالية، فقد قُدّر عجز الميزانية بـ 11.22 مليار دينار (4.03 مليارات دولار)، أي 9.6% من الناتج المحلي، في عام 2020. وزادت نفقات الميزانية بشكل طفيف بنسبة 0.3%، لتبلغ 20.69 مليار دينار (7.44 مليارات دولار)، مقابل 20.63 مليار دينار (7.42 مليارات دولار) في عام 2019. واقترضت الحكومة 8.78 مليارات دينار (3.15 مليارات دولار) لتغطية العجز في ميزانية الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، في حين تحتاج البلاد إلى تعبئة موارد إضافية بقيمة تتجاوز الـ10 مليارات دينار (3.59 مليارات دولار) حتى نهاية السنة الجارية. فهل تبدو تونس على شفير الإفلاس؟ يعتقد الخبير الاقتصادي، عبد الجليل البدوي، أن «الدولة لا تفلس»، لكنه يعتبر أن تونس تمرّ بوضع اقتصادي «منهار»، لا يَظهر مفتوحاً على أيّ آفاق، و«هنا مكمن الخطر»، بحسب ما يرى البدوي، مُبيّناً في حديث إلى «الأخبار» أن «المستثمرين التونسيين بصدد تحويل طاقات إنتاجهم إلى بلدان أخرى (بحسب آخر إحصاء رسمي في عام 2016، نحو 1200 مستثمر تونسي استثمروا في المغرب ودول أفريقية أخرى)»، متحدّثاً عن «ارتفاع قيمة الأموال المُهرَّبة من تونس سنوياً إلى 4.1 مليارات دولار، وهو مبلغ لم يكن يتجاوز 1.6 مليار دولار سنة 2010». وعليه، يحذّر الخبير الاقتصادي من أن «وضع الانهيار أسوأ من الإفلاس».
كتتاب أم تبرّع؟
بتاريخ الرابع من تشرين الثاني، أشرف الرئيس قيس سعيد على جلسة وزارية تناولت جملة من مشاريع المراسيم والاتفاقيات والقروض. وأقرّ سعيد، في الجلسة، بوجود أزمة اقتصادية «لا يمكن لأحد التشكيك فيها»، داعياً هذه المرّة، وبعد دعواته السابقة للتونسيين إلى التقشّف، إلى إقراض الدولة «للمساهمة في إيجاد التوازنات المالية المطلوبة». ولم يفسّر الرئيس ما إذا كان يقصد بكلامه الدعوة إلى اكتتاب جديد (علماً أن قسطاً ثالثاً من اكتتاب سابق أقرّته حكومة هشام المشيشي جارٍ حالياً، وينتهي بتاريخ 12 تشرين الثاني)، أو إلى التبرّع للدولة لتجاوز النقص الفادح في ميزانيتها.
ولم يكد يومان يمرّان على ذلك الموقف المبهم الذي لم يَلِه أيّ تفسير أو إجراء عملي، حتى راسلت رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، بصفة رسمية، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، وطلبت فتح باب التفاوض مع الصندوق من أجل عقد اتفاق جديد، أي استئناف المسار الذي بدأه رئيس الحكومة المقال، هشام المشيشي، منذ نحو نصف سنة. وجاءت هذه المبادرة وسط ما يشبه التكتّم الرسمي، إذ لم تعلنها لا رئاسة الحكومة ولا وزارة المالية، ولولا البيان الإعلامي للبنك المركزي عشية السادس من تشرين الثاني، لَما علم الرأي العام بها، ولا بالاجتماع الذي ضمّ كلّاً من محافظ البنك المركزي ووزيرة المالية ووزير الاقتصاد مع وفد من «النقد الدولي»، في اليوم ذاته الذي أعلن فيه رئيس الجمهورية نيّته الدعوة إلى اكتتاب وطني.
وكانت الدولة التونسية لجأت، في عام 2014، إلى الاقتراض الداخلي، وطلبت حينها من التونسيين قرضاً بقيمة 500 مليون دينار تونسي (ما يقارب 250 مليون دولار)، وهو ما مكّنها من جمع 430 مليون دولار، بسعر فائدة يقارب 6%.

الاكتتاب حلّ... ولكن
يرى الخبير الاقتصادي، البدوي، أن الاكتتاب يمكن أن يكون أحد الحلول للوضع الاقتصادي المنهار، مستدركاً بأنه «ليس حلّاً كافياً، لأنه لا يمكن أن يغطّي حاجات المالية العمومية، ولا أظنّه سيدرّ موارد كبيرة... لجأت الدولة إلى هذا الحلّ سابقاً، وكان أغلب المشاركين والمساهمين من المؤسسات (بنوك وشركات كبرى...) فيما كانت مشاركة المواطنين ضئيلة». ويلفت إلى أن «غالبية الشرائح المجتمعية غير قادرة اليوم على المساهمة في الاكتتاب، نظراً إلى تراجع المقدرة الشرائية... كثيرون فقدوا عملهم بسبب جائحة كورونا... المؤسسات خفّضت من أعداد موظفيها، وأخرى أفلست وأغلقت أبوابها نهائياً». ويضيف البدوي، وهو مدير قسم الدراسات في «المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، أن «الأرقام خير دليل على صعوبة الوضع الاقتصادي اليوم... نسبة البطالة شارفت على 18%، ونسبة الفقر بلغت 21% وفق آخر إحصائيات البنك العالمي، ونسبة الادّخار تراجعت إلى 4% سنة 2020، وهي نسبة لم تُسجَّل في تاريخ تونس المستقلّة سابقاً»، متابعاً أن «غالبية العائلات صارت تلجأ إلى الاستدانة حتى تحافظ على الحدّ الأدنى من مستوى العيش، وهي كلّها مؤشرات تؤكد أن شرائح عريضة خاصة السفلى والمتوسّطة، صارت خارج إمكانية المساهمة في الاكتتاب».
كذلك، يشير البدوي إلى أن المؤسسات التي ساهمت في الاكتتاب السابق تعاني صعوبات كثيرة بدورها، خاصة أن «ضعف الحركة الاقتصادية انعكس سلباً على مردود أغلبها»، متحدّثاً عن رفض البنوك إقراض الدولة قروضاً على المدى الطويل أو حتى المتوسط، مفسّراً هذا بأن «المؤسسات المالية صارت تشترط منح الدولة قروضاً على المدى القصير جدّاً لنقص السيولة، وبلوغ حجم اقتراض الدولة ما يقارب 22 مليار دينار تونسي... وهذا مبلغ كبير».

خيارات أخرى
يُنتقد الرئيس قيس سعيد لكونه لا يفقه بالاقتصاد، وقد أثبت في أكثر من مناسبة، بالفعل، أن هذا الاختصاص ليس أفضل ما يمكنه الحديث فيه. كما يُعاب عليه، حتى من «الاتحاد العام التونسي للشغل» ومنظّمات أخرى، عدم تقدّمه ببرنامج اقتصادي واضح إلى اليوم، لا هو ولا حكومته التي مضى أكثر من شهر على تشكيلها. «رئيس الجمهورية لا يملك فهماً للاقتصاد، ولا هو محاط بِمَن يفهمه، هو لا يملك حكومة فيها اقتصاديون ذوو كفاءة وخبرة... ولا يملك مشروعاً أو خطّة واضحة لما نحن ذاهبون إليه»، بهذا يصف البدوي رئيس الجمهورية، منبّهاً إلى أن لدى الدولة مصادر أخرى لتعبئة ميزانيتها غير الاكتتاب، مِن مِثل مستحقاتها المتراكمة في ذمّة رجال الأعمال والمؤسسات كخطايا جمركية وأداءات، والتي تبلغ نحو 12.6 مليار دينار تونسي. وينتقد الخبير الاقتصادي تعاطي الدولة مع هذه الموارد الضائعة، معتبراً إيّاها «غير حازمة في استرجاع مستحقاتها. هذا مخزون هامّ، ويجب الحرص على جدولة استخلاصه بشكل عاجل»، مقترحاً «إصدار مرسوم يمنع إصدار أيّ عفو جبائي لمدّة عشر سنوات، وتشديد العقوبات على المتلكّئين في إرجاع أموال الدولة». حلول أخرى تبدو ممكنة أيضاً وأكثر نجاعة وسرعة من الاكتتاب وفق البدوي، على غرار فرض «ضريبة على الثروة»، فـ«حتى البلدان الرأسمالية صارت تتحدّث عن تطبيق هذه الضريبة، خاصة أنها ضريبة واضحة وأسهل من ضريبة الأرباح التي يصعب حصرها»، يبيّن محدّث «الأخبار»، لافتاً إلى إمكانية فرض «ضريبة استثنائية على القطاعات التي استفادت من جائحة كورونا، على غرار العيادات الخاصة والمصحّات والمخابر وتجار الأدوية والبنوك».

الحماس والثقة لا يكفيان
ينبّه البدوي إلى أن الحماس لفكرة إنقاذ البلاد، والثقة التي يملكها الرئيس التونسي، «وحدهما غير كافيين لدعم ميزانية تنتظر موارد وإمكانات مالية ضخمة لسدّ نقائصها حتى نهاية العام الحالي»، مضيفاً أنه «حتى لو تحمّس التونسيون لفكرة إقراض الدولة وتدعيم الميزانية لإنقاذ البلاد، فإنهم لا يملكون موارد لذلك». بدوره، يؤكد رئيس «حلقة الماليين التونسيين»، عبد القادر بودريقة، في تصريح إذاعي، ما يذهب إليه البدوي من أن «الاكتتاب حتى وإن نجح، فلن يكون كافياً لسدّ عجز ميزانية الدولة لسنة 2021»، متوقّعاً أن تكون «تكون سنة 2022 أشدّ صعوبة من السنة الحالية»، خاصة أن «ضعف مدّخرات التونسيين يجعل الحسّ الوطني محدّداً في هذه العملية».


أين اختفى الدعم الدولي؟
توعّد الرئيس قيس سعيد بفتح تحقيق في الهبات والمنح التي تحصّلت عليها تونس خلال العشر سنوات الماضية، وأكد أنه كلّف وزيرة المالية بالبحث في مآل هذه الأموال، وقال في آخر مجلس وزاري: «ستقوم الوزيرة بعمل استقصائي في الأموال والمليارات التي تحصّلت عليها تونس خلال العشر سنوات الماضية... أموال كثيرة لا أثر لها إلا في نشرات الأخبار»، على حدّ تعبيره. وإذ يستحسن الخبير الاقتصادي، عبد الجليل البدوي، هذه المبادرة، معتبراً أن بالإمكان فعلاً استخلاص موارد منهوبة من خلالها، إلّا أنه يرى أنها لا توفّر حاجات الميزانية العاجلة، موضحاً أن «تونس اليوم في حاجة إلى إجراءات فورية. (الرئيس قيس) سعيد يرفع شعار مقاومة الفساد، فلماذا لا تجري ملاحقة كبار الفاسدين؟ إجراءاته الحالية في مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين لا مردود مالياً كافياً منها».