الجزائر | امتلأت الأجندة الدبلوماسية في الجزائر بالكثير من الملفات خلال فترة قصيرة، وأصبحت أخبار علاقات البلاد الدولية تتصدّر اهتمام الإعلام الحكومي في البلاد. وفيما بات الرئيس عبد المجيد تبون يحرص دورياً على الحديث مع وسائل الإعلام الدولية المتعطّشة للانفتاح على هذا البلد، أضحى وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، من بين المسؤولين الأكثر حضوراً ضمن الطاقم الحكومي، حيث يحظى بتغطية مكثّفة تكاد تعادل تلك المخصَّصة لنشاطات الرئيس أو رئيس أركان الجيش. وشكّلت عودة لعمامرة في التعديل الحكومي الأخير في كانون الثاني 2021، مفاجأة كبرى؛ كون الرجل ظلّ محسوباً على السلطة السابقة، لكن خبرته الطويلة في المجال الدبلوماسي وعلاقاته المتشابكة في أفريقيا ومع الدول المحورية في العالم، جعلت أصحاب القرار في الجزائر يستعينون به مرّة أخرى لتسيير دفّة الدبلوماسية الجزائرية وإخراجها من العطالة التي أصابتها.والتقت عودة لعمامرة مع أحداث مفصلية في المنطقة، أبرزها إعلان المملكة المغربية تطبيع العلاقات مع إسرائيل في إطار صفقة تشمل اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، ثمّ تجرّؤ وزير الخارجية الإسرائيلي على تهديد الجزائر من الأراضي المغربية، واكتشاف استعانة المخابرات المغربية ببرنامج «بيغاسوس» الإسرائيلي للتجسّس على شخصيات جزائرية كبيرة، قبل أن يتبع ذلك ما لم يكن في الحسبان، عندما تحدّث ممثّل المغرب في الأمم المتحدة عن دعم بلاده لاستقلال منطقة القبائل في الجزائر، خلال اجتماع لـ«منظّمة دول عدم الانحياز». كلّها أحداث تفاعلت تباعاً، لتصل بالجزائر إلى اتّخاذ قرار قطع العلاقات مع المغرب في آب 2021، عبر إعلان تلاه لعمامرة باسم رئيس الجمهورية، في خطوة رسمت تحوّلاً في تعاطي البلاد دبلوماسياً مع جارتها الغربية، حيث كانت تفضّل في السابق أسلوب التجاهل. وما يؤكّد ذلك اتّخاذها إجراءات عقابية غير مألوفة، مِن مِثل قرار وقف إمداد إسبانيا بالغاز الطبيعي عبر الأنبوب المارّ بالأراضي المغربية، والذي كان المغاربة يعتمدون عليه أيضاً في تشغيل محطّاتهم الكهربائية.
ولأن الأزمات لا تأتي فرادى، واجهت الجزائر، في الأشهر الأخيرة، أزمة دبلوماسية مع فرنسا، تُضاف إلى الاضطراب المزمن في العلاقات، بالنظر إلى التاريخ الدامي بين البلدين في فترة الاستعمار. وطفا الخلاف إلى الواجهة، بعد تصريحات مفاجئة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أطلق فيها أوصافاً حادّة على النظام الجزائري، الذي اتّهمه بأنه يستغلّ «ريع الذاكرة» للبقاء في الحُكم. ويقصد ماكرون بريع الذاكرة، أن السلطات الجزائرية تُوظّف التاريخ الأليم للجزائريّين مع الاستعمار الفرنسي، لتركيز العداء ضدّ فرنسا وحرف الأنظار عن مطالبات التغيير في البلاد. لكن ماكرون أثار غضباً عامّاً في الجزائر، بعد أن حاول إنكار وجود الأمة الجزائرية في التاريخ، مكرّراً المبرّرات الاستعمارية نفسها للاحتلال الفرنسي، وهو ما أدى به إلى الوقوع في تناقض صارخ، كونه كان من وصف الاستعمار بالجريمة ضدّ الإنسانية عندما كان مرشّحاً للرئاسيات الفرنسية سنة 2017. كما أن تصريحاته بدت خارجة من السياق العام للعلاقات بين البلدين، على اعتبار أنه كان يتبادل الاتصالات الهاتفية مع الرئيس تبون دورياً، وبعث ببعض الإشارات الإيجابية في ما يتعلّق بمصالحة الذاكرة، عبر إعادة جماجم المقاومين الجزائريين التي كانت مصادَرة في «متحف الإنسان» في باريس، والاعتراف ببعض جرائم الاغتيال الفرنسية بحقّ المناضلين الجزائريين من أجل الاستقلال.
لا يوجد اختلاف جوهري داخل الطبقة السياسية الجزائرية على السياسة الخارجية للبلاد


وشكّلت هذه الأزمة اختباراً للجزائر، وهو ما واجهته عبر تجاوز الإجراء الروتيني المتعلّق بسحب السفير، إلى استعمال أدوات ضغط أخرى، تمثّلت في منع تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في الأجواء الجزائرية في طريقها نحو منطقة الساحل، حيث تنفّذ القوة العسكرية الفرنسية هجماتها في إطار عملية «برخان». وقال الرئيس الجزائري، بخصوص ذلك، في مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية، إن الطائرات الفرنسية اليوم عليها أن تقطع تسع ساعات بدل أربع للوصول إلى مالي، موضحاً أنه لن يسمح للطائرات بالمرور إلّا في حال نقل الجرحى. وتحدّث تبون بنبرة غضب ضدّ ماكرون، مؤكداً أنه لن يتّخذ أبداً الخطوة الأولى لإعادة تطبيع العلاقات. وفي الواقع، حتى وإن كانت تصريحات ماكرون مفاجئة من حيث السياق، إلّا أنها كانت عبّرت عن تذمّر فرنسي من تعاطي الجزائر مع عدّة ملفّات تراها باريس حيوية، وفي مقدّمتها تراجع النفوذ الاقتصادي الفرنسي في الجزائر، إذ جرى في الفترة الأخيرة إيقاف العمل بعدّة عقود لشركات فرنسية كبرى، مثل عقد تسيير ميترو الجزائر، وتشغيل شبكات مياه الشرب في بعض المناطق. كما أن فرنسا، التي تتأهّب للانسحاب من مالي، لم تحصل على ما تريده بتعميق إقحام الجزائر في هذا البلد؛ فالأخيرة، على رغم أنها عدّلت دستورها الذي أصبح يسمح بإرسال قوات عسكرية إلى الخارج، ترفض حتى الآن المشاركة في العملية العسكرية في مالي، وتفضّل بدلاً منها الخيار الدبلوماسي باعتبارها الدولة الراعية لاتفاق السلام سنة 2015.
وفي تعليقه على الأداء الدبلوماسي الجزائري، يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة وهران، رابح لونيسي، أن «هناك نوعاً من الصرامة والحزم في الردّ على فرنسا، فلأوّل مرّة، يجري سحب السفير الجزائري من فرنسا، ويجري وضع شروط لعودته، وأكثر من هذا غلق المجال الجوي أمام الطائرات الفرنسية، دون أن ننسى ربط علاقات وطيدة مع دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، خاصة أن إيطاليا مثلاً في خلاف كبير مع فرنسا». ويضيف لونيسي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تبون يريد أن يُشعر فرنسا بأنها هي من تحتاج للجزائر، فكلّ ما استخدمه من قَبل كغلق المجال الجوي، ووقف عقود بعض المؤسسات، ومنع اللغة الفرنسية في بعض الوزارات وغيرها، هي أدوات ضغط على فرنسا»، متابعاً أن «الأمر نفسه ينطبق على المغرب الأقصى، حيث لم يتوقّف الردّ على الأقوال فقط، بل انتقل إلى الفعل والضغط بعدم تجديد اتفاق أنابيب الغاز، وكذلك غلق المجال الجوي أمام الطائرات المغربية». لكن لونيسي يشدّد على ضرورة الحذر والتصرّف بذكاء، وعدم الانسياق وراء مطالب شعبوية يمكن أن تضرّ بمصلحة الجزائر، وهو ما يبدو أنه أُخذ بعين الاعتبار في كلّ القرارات المُتّخذة حتى الآن.
وخارج إدارة الأزمات الدبلوماسية، أظهرت الجزائر، أخيراً، رغبة في استعادة دورها كقوّة وساطة في القارّة الأفريقية، حيث تَحرّك الوزير لعمامرة اتّجاه محور حوض النيل، لمحاولة تقريب وجهات النظر بين إثيوبيا والسودان ومصر بخصوص أزمة سدّ النهضة. وداخل الاتحاد الأفريقي، قادت الجزائر حراكاً قوياً لإلغاء قرار ضمّ إسرائيل كعضو مراقب. وفي المحيط القريب، تظلّ الأزمة الليبية محلّ انشغال عميق في الجزائر، التي كانت قد استضافت ندوة دول الجوار قبل فترة، بينما لا تخفي اهتماماً بالأحداث في تونس، التي زارها لعمامرة عدّة مرات منذ قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 تموز الماضي. كما أن الجزائر تستعدّ لاستضافة القمّة العربية التي ستُعقد في آذار المقبل، والتي وصفها لعمامرة أمس بأنها «ستكون فرصة للمّ الشمل العربي»، لافتاً إلى أن بلاده تبحث عن توافق في شأن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والتي أعرب عن اعتقاد بلاده بأنه حان آوانها، «لكن دون التدخّل في شؤون سوريا الداخلية». أمّا أوروبياً، فتراهن البلاد على تغيير خارطة الحلفاء، عبر تقوية علاقاتها مع شريكَيها التقليديَين إسبانيا وإيطاليا، على حساب فرنسا، والسعي لمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي عاد على البلاد بخسائر كبيرة في ظلّ عدم قدرتها على منافسة المنتجات الأوروبية.
لكن الجزائر، مع ذلك، تبقى عرضة دولياً لانتقادات مجلس حقوق الإنسان في جنيف ومنظّمات غير حكومية، حول قضايا الاعتقالات وطريقة التعامل مع الحراك الشعبي، وهو ما ظهر في تحرّكات البرلمان الأوروبي الذي أصدر عريضة إدانة للانتهاكات الحقوقية قبل سنة. وداخل الطبقة السياسية الجزائرية، لا يوجد اختلاف جوهري على السياسة الخارجية للبلاد، كما ثمّة اعتراف جامع بوجود تهديد خارجي، لكن تبقى هناك مطالبات من بعض أحزاب المعارضة بالإصلاح السياسي، وعدم اتّخاذ هذه التهديدات ذريعة لتعطيل مسار التغيير.