منذ نحو شهرَين، سُمح لسكّان منطقة مخيم اليرموك، أو ما يُعرف بـ«عاصمة الشتات»، بالدخول إلى المنطقة، توازياً مع البدء بإزالة الركام وترحيل الردميّات بالتنسيق بين محافظة دمشق والفصائل الفلسطينية وسفارة دولة فلسطين. وكان المخيم، الذي تُقدّر مساحته بـ2.11 كلم مربّع، ويضمّ حوالي نصف مليون فلسطيني، أي ما نسبته 36 في المئة من اللاجئين الفلسطينيين في عموم سوريا، شهد، خلال سنوات الحرب، معارك عنيفة جداً، استمرّت حتى منتصف عام 2018، حيث خرج مقاتلو «داعش» من المنطقة، بموجب اتفاق مع الجيش السوري، قضى بترحيلهم إلى البادية.في جولة لـ»الأخبار» داخل المخيم عقب فتحه أمام السكّان، يبدو المكان مختلفاً تماماً، حيث يستقبلنا عناصر من الجيش السوري عند المدخل، ويسألوننا عن وجهتنا، فيجيب أحدنا بأنه آتٍ لتفقّد منزله. في البداية، مررنا من أمام مستشفى حلاوة، حيث تسلّل إلى داخلنا شعور بالذهول، ليس من حجم الدمار فقط، بل أيضاً لأن المخيّم الذي كان يمتاز بالكثافة السكّانية، يَظهر شبه خالٍ. أثناء التجوال، لا بدّ، وإن لم تكن غريباً، من أن تلفتك أسماء الشوارع والحارات: حيفا وصفد وأريحا، وغيرها من المدن والبلدات الفلسطينية. نكمل جولتنا باتجاه «جامع فلسطين»، حيث يتعاظم الدمار مع تزايد شعارات تنظيم «داعش» المرسومة على الجدران. وبالقرب من الجامع، واحدة من أكثر الصور إيلاماً، هي المقبرة أو «التربة»، والتي رسم الإرهاب فيها إحدى أبشع الشواهد على همجيّته، حيث حطّم شواهدها وعاث فيها دماراً.
مخيّم اليرموك الذي كان يمتاز بالكثافة السكّانية العالية يبدو اليوم شبه خالٍ

وفي المقبرة أيضاً، رموز الثورة والمقاومة الفلسطينية كالشهيد خليل الوزير والشهيد فتحي الشقاقي والشهيد سعد صايل، وغيرهم من الشهداء والفدائيين الذين خرجوا من المخيم إلى ساحات المعارك. وعلى مقربة من «التربة»، تجد أولئك النسوة «الندّابات»، اللواتي يشتغلنَ بالبكاء والنواح على الجنازات المتوافدة، لكنهنّ في اللحظة نفسها «يقمّعن» البامية، ويقطّعن الملوخية، وينقّين الحصى الصغير من القمح والبرغل، في مشهدٍ سورياليّ، حيث لا هي حياة قائمة، و لا هو موت. لكن لمخيّم اليرموك وجهاً آخر مليئاً بالحياة أيضاً، وهو جمع المثقّفين والأدباء والأطبّاء والمفكرين الذين تخرّجوا منه، أمثال الدكتور محمود موعد الذي يُعدّ من أهمّ الأدباء والقاصّين في سوريا، فضلاً عن كونه من أهم رموز كتّاب القصّة الفلسطينية. كذلك الأمر بالنسبة إلى الشاعر الفلسطيني حسن البحيري، والروائية نعمة خالد، وغيرهم الكثيرين الذين لا يسع ذكرهم هنا.
خلال الجولة، نصادف امرأة تجاوز عمرها التسعين عاماً، ولم تغادر المخيم خلال الحرب. نسأل عن سبب بقائها، فتجيب: «خرجتُ من فلسطين أوّل مرّة، ولن أخرج منها ثانية، وإن كان الموت قريباً فليكن في فلسطين». كان عدد الوافدين إلى المخيم في تزايد دائم. شاهدنا اللقاء بين الجيران والأقارب الذين فرّقتهم الحرب. تسمع أسئلة من قبيل: «كيف العيشة في ألمانيا؟ هل تلتقون بـ(فلان) في السويد؟ هل حصلت على الجنسية؟». تقفز إلى ذهنك على الفور صور التغريبة الأولى، قبل أن توقظك منها سريعاً أصوات إزالة الركام والتنظيف.