تبدو السعودية في مرحلة التمهيد لِمَا بعد تحرير مأرب، إذ تُبيِّن الدلائل والمعطيات المتوفّرة على الأرض أن الحافزية القتالية لِمَن بقيَ في هذه المدينة، تراجعت إلى درجة اليأس والإحباط. وفي ظلّ محدودية خياراتها، تشتغل الرياض على الاستدارة جنوباً، في محاولة لإعادة ترتيب أوراقها، لا سيما أن خسارتها مأرب ستُفقدها آخر قلاعها في الشمال، وتُبقِي في متناولها بؤراً جغرافية متباعدة لا تؤمِّن لها مميزات حيوية قابلة للاستثمار السياسي أو العسكري. وعلى هذه الخلفية، نشط الإعلام السعودي، في الأيام القليلة الماضية، في الترويج لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي»، وأجرى مقابلات مع العديد من شخصياته، وفي مقدِّمهم رئيسه عيدروس الزبيدي، الذي بدا منسجماً بالكامل مع الأجندة السعودية، وأبدى استعداده ليكون جزءاً منها، واضعاً نفسه بتصرّف ما سمّاه «مشروع الدفاع عن الأمن القومي العربي» في إطار «التحالف» الذي تقوده الرياض، وهي إشارة إلى جهوزية المجاميع المسلّحة المنضوية تحت لوائه، لبدء حربها على الشمال.وفي سياق تعويم «الانتقالي»، أفرجت السعودية، الخميس الماضي، عن أربعٍ من قياداته، في خطوة تهدف من ورائها إلى كسب ودّ الفصيل المدعوم إماراتياً، والتقرّب منه بغية استقطابه وضمّه إلى صفّها، كبديل عن حزب «الإصلاح» الذي تعرّض لضربات متتالية من جانب الجيش اليمني و«اللجان الشعبية» في محافظتَي مأرب وشبوة. وتجلّى الدفع السعودي في الجهد المبذول لتوحيد صفّ قوى العدوان (الوكلاء)، بعدما أطاح «سقوط» الشمال، معطوفاً على المصالح الفئوية والشخصية لبعضها، العداء التاريخي بين مكوّناتها، معيداً إنتاج تحالفات جديدة على مقاس مصالح التحالف السعودي - الإماراتي. وكمثال على ذلك، تُجمِع المكونات الجنوبية - على اختلافها - على أن المسبِّب الرئيس لمآسي المحافظات الجنوبية، هو اجتياح الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، بمؤازرة حزب «الإصلاح»، هذه المحافظات وإجبار قادتها على توقيع اتفاق الوحدة (1994) من دون الاعتراف بحقوقها، ومن ثم عودة قواته إلى عدد من تلك المحافظات في عام 2015.
في هذا الوقت، رحّب الناطق باسم «المجلس الانتقالي الجنوبي»، علي الكثيري، بالدعوة التي أطلقها المكتب السياسي لما يسمّى «المقاومة الوطنية»، الجناح السياسي لميليشيا «حرّاس الجمهورية»، إلى «الاتّحاد في مواجهة أنصار الله على امتداد خطوط التماس في اليمن والجنوب». وكان المكتب عقد، الخميس، اجتماعاً هو الأوّل في مدينة المخا، برئاسة العميد طارق صالح المدعوم من الإمارات، والذي تسيطر قواته على أجزاء من مناطق الساحل الغربي على البحر الأحمر، مؤكداً في بيان أنّ قواته لن تكون خارج إطار «الشرعية» و«التحالف العربي»، ومشدّداً على ضرورة العمل الجادّ بهدف تحقيق «شراكات فاعلة مع مختلف القوى الوطنية من أحزاب وتنظيمات شعبية بما تتطلّبه المرحلة وحجم المعركة المصيرية» ضدّ قوات صنعاء.
تجري السعودية مراجعة شاملة لسياستها في المحافظات الجنوبية


ويُرجَّح، في هذا الإطار، قيام المملكة بمراجعة شاملة لسياستها في المحافظات الجنوبية، حيث اعتمدت، في السابق، على احتواء المكوّنات الجنوبية، وعلى رأسها «الانتقالي»، وهي سياسة أدّت، في حينه، إلى التضييق على الفصيل الجنوبي وإضعافه وإحراجه أمام كوادره وجمهوره. ولم تتوقّف المراجعة السعودية عند محاولة ضمّ «الانتقالي» إلى صفّها، وبثّ الحياة في شرايينه في أكثر من موقع سياسي وعسكري؛ بل يبدو أن المراجعة شملت وكيلها الرئيس في العدوان، أي حزب «الإصلاح»، الذي حمّلته مسؤولية الانسحاب من مديريات بيحان الثلاث في شبوة من دون قتال، فضلاً عن اتّهامه بالتخلّي عن القبائل في محافظة مأرب، والاستفادة من الإمكانات الضخمة المقدَّمة من جانب «التحالف» من دون استخدامها في وجهتها الحقيقية. وفي هذا الإطار، أجرت وسائل إعلام سعودية مقابلة مع أحد ضباط قوات الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، قدَّم فيها معلومات وأدلّة تؤكد «خيانة الإخوان المسلمين للتحالف»، متّهماً إيّاهم بتسليم المديريات الثلاث في محافظة شبوة.
ويبدو أن الإمارات ليست بعيدة هي الأخرى عن المراجعة السعودية، إذ يُظهِر السياق أن المراجعة مشتركة بين الحليفتَيْن، لا سيما أن الرياض بدأت تستجيب لمطالب أبو ظبي، والقاضية خصوصاً بتقييد حزب «الإصلاح» وإبعاده عن المشهدَين السياسي والعسكري في اليمن. ولعلّ أبرز مؤشّر على ذلك، الانسحاب الإماراتي من معسكر «العلم» بالقرب من مدينة عتق، مركز محافظة شبوة، وتسليمه إلى «النخبة الشبوانية» - المموّلة إماراتياً -، قبل أن يتمكّن «الإصلاح» من انتزاع المعسكر مجدّداً. ويُعمل حالياً على إعادة تشكيل «النخبة الشبوانية» التي تمّ حلُّها عام 2018، فيما تسرّبت معلومات تفيد بأن أبو ظبي عازمة على الانسحاب من منشأة بلحاف الغازية في بحر العرب، وتسليمها لـ«النخبة»، ما من شأنه أن يسعّر العداء بينها وبين «الإصلاح».
على أن النشاط السعودي - الإماراتي يأتي في سياق خطّة أشمل تشارك فيها الدول الداعمة للعدوان، والتي لاقت الرياض وأبو ظبي في جهود تقودها لندن من باب إحياء «اتفاق الرياض» الموقَّع في تشرين الثاني من عام 2019، والسعي إلى الاستجابة لمطالب «الانتقالي» من خلال الضغط على ما يسمّى «الشرعية» لتنفيذ تلك المطالب. وفي ضوء ما تقدَّم، دعا السفير البريطاني لدى اليمن، ريتشارد أوبنهايم، حكومة هادي، إلى البدء بتنفيذ «اتفاق الرياض»، فيما تركَّز بحث الوفد الأوروبي (ضمّ نائب سفير الاتحاد وسفراء كل من فرنسا وألمانيا والمبعوث السويدي إلى اليمن)، الذي زار عدن، الخميس، على إعادة إحياء الاتفاق المذكور، وخطورة تمدُّد قوات صنعاء في محافظتَي مأرب وشبوة النفطيتَيْن.
يفرض «الانتقالي» سرديته المعهودة على أنها حقائق ثابتة غير قابلة للنقاش، ويدفَع بها لتشكِّل ضغطاً كبيراً على حزب «الإصلاح»، فيما يستثمر في حاجة «التحالف» المتجدّدة إليه، عبر تقديم نفسه «ممثّلاً وحيداً» للمحافظات الجنوبية، كما يقود مساعي محازبيه نحو فكّ الارتباط مع الشمال. أما في شأن إحياء «اتفاق الرياض»، فيُظهر «الانتقالي» استعداده للسير في هذه الخطوة بما يتناسب مع رؤيته القاضية بانسحاب «الإخوان المسلمين» من محافظات أبين وشبوة وحضرموت. ولعلّ أبرز إغراء يقدّمه هذا الفصيل للقوى الغربية، هو تقديم نفسه كـ«حارس» الغرب و«التحالف» للممرّات البحرية في باب المندب وخليج عدن.