افتُتحت، قبل أيام، في العاصمة السعودية الرياض، النسخة الثانية من المهرجان الترفيهي الضخم «موسم الرياض»، الذي يمثّل الرافعة الأهمّ لأحد برامج «رؤية 2030»، في ما يُطلَق عليه «برنامج جودة الحياة»، الذي يُعنى، بحسب القائمين عليه، بـ«تحسين جودة حياة الفرد والأسرة من خلال تهيئة البيئة اللازمة لدعم واستحداث خيارات جديدة تُعزّز مشاركة المواطن والمقيم والزائر في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية والسياحية». يقوم الموسم على مجموعة واسعة من الفعّاليات الترفيهية والعروض والحفلات والتسوّق، ليصل عبر ذلك إلى غايتَين رئيسيتَين: الأولى تندرج ضمن إطار ربط المملكة بالسوق والفعّاليات الثقافية المعولمة واستثماراتها، من التعاقد مع المؤسسات العالمية المعنيّة بتنظيم هكذا مهرجانات، إلى الفرق والفعّاليات الفنية والموسيقية والرياضية، والثانية توفير الدولة لحالة ترفيهية واستهلاكية ضخمة للجمهور، تصبّ مباشرة في خانة الحالة التعاقدية الجديدة بين الدولة السعودية ومكنون هُويّتها الوطنية المستحدثة لمواطنيها. فبعدما اتّسمت الهوية السعودية التقليدية بالطابع الإسلامي خلال العقود الماضية، عبر تكييف أدوات الدولة ومؤسّساتها في سياق ما يُطلَق عليها «الصحوة» وتحشيد الجماهير عبرها، تتّخذ عملية تكييف هذه الأدوات اليوم عنواناً جديداً، تحت شعار العولمة والنيوليبرالية وتحشيد الجماهير للولوج في حالة استهلاكية كبرى. هكذا، تنقلب صورة صراع التيّارات داخل المملكة، ففي حين كانت التيارات ذات الهوى الليبرالي تعيش حالة تهميش في ظلّ سطوة التيارات المحافظة، يتمّ اليوم إقصاء الأخيرة بين التهميش والقمع والاغتراب، لتتّخذ المهجر ملجأ تناكف فيه الدولة على خلفية خياراتها الليبرالية، وصولاً إلى مشهد تقديم عضو «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، الداعية مصلح العلياني، أحد الشرعيين السابقين لـ«هيئة تحرير الشام»، برامج يتابعها عشرات الألوف على وسائل التواصل الاجتماعي، تهاجم «هيئة الترفيه» و«موسم الرياض».

شرعية مجتمع المستهلكين
خلال تجوّلها في أحد مرافق الموسم، علّقت إحدى المراسلات الغربيات عبر حسابها على «إنستغرام» على محالّ بيع الأزياء التنكّرية بالقول: «بعد سنوات من كونه تابوهاً ومن المحظورات المجتمعية، هالوين وصل إلى السعودية». جُلّ المسألة هنا يتعلّق بلفظ «الوصول»، بمعنى تمدّد ثقافة العولمة الأميركية خارج الحدود لتصل إلى المجتمعات الأخرى كمظهر من مظاهر التحديث والحداثة. وهذا هو تحديداً عماد «شرعية العولمة» المتبنّاة سعودياً، فبعد قرابة العقدين من حالة أشبه بالمسخ، من تجسير البترودولار للثقافة الغربية عبر إمبراطورية «MBC»، مترافقةٍ مع قدرة شرائية عالية لدى المواطنين كتَبِعة للطفرات النفطية من جهة، وتأطيرها عبر سطوة التيارات الدينية من جهة أخرى، وصلنا اليوم إلى تفجّرها وتلبّسها لبوس الهوية الوطنية الجديدة. فالطبقة الحاكمة اليافعة في المملكة تعيش قصوراً عن توليد أدوات شرعية وهوية وطنيتَين من منابت داخلية، خصوصاً في ظلّ هوسها بإنتاج قطيعة مع الماضي، والذي يتجلّى في أحد المقاطع الترويجية للموسم تحت عنوان: «وين كنا ووين صرنا». هكذا، تتحوّل العلاقة بين الدولة والمواطنين نحو ما يطلَق عليه «مجتمع المستهلكين»، أي أنه مجتمع يتمثّل فيه أعضاؤه باعتبارهم مستهلكين في المقام الأول، والنجاح فيه هو القدرة على ريادة الأعمال في ظلّ علاقات اجتماعية تحدَّد عبر التنافسية، وتمسي الحالة الاستهلاكية فيه المعيار الأبرز لجودة الحياة.
الأمير هنا هو الصنم الذي تتقرّب به الجماهير نحو السلع والاستهلاك


يلاحظ الاقتصاديّ الأميركي ريتشارد وولف، منطلِقاً من نظريات الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، حول آلية عمل الأجهزة الإيديولوجية للدولة، أن الاستهلاك كإيديولوجيا أمضى من أدوات الدولة في ضبط الشعوب، بمعنى أن شرعية الدولة ومؤسساتها تقوم على تمكين العملية الاستهلاكية وتسهيلها، فتمسي علاقة الحاكم والمحكوم ضمن إطار إشباع هذه الرغبات الشرائية. ويرى وولف أن من آليات إضعاف الفئات العمّالية الأميركية وتعميق استغلالها، جعلها مهووسة بالاستهلاك والشراء، مع انحدار الخطاب المناهض للنزعات الاستهلاكية كخطاب معادٍ الرأسمالية. وعلى النحو نفسه، فحين نرى صورة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تتشكّل في سماء الرياض عبر المسيّرات، ويصفه تركي آل الشيخ بـ«قائدنا الملهم»، وسط شعبية وامتنان حقيقيَّيْن لدى جيل الشباب والشابات، فإن هذه العلاقة قائمة على استلاب إيديولوجي تحت عنوان «الانفتاح الاقتصادي»، ومن خلال تشريع أبواب كانت مغلقة أمام الجمهور ليدخل في دوامة الاستهلاك الداخلي، بعد أن كانت القدرة الشرائية للسعوديين تنصبّ على السياحة الخارجية من دبي إلى أوروبا. وفي هذا الإطار، يقول آل الشيخ نفسه في افتتاح الموسم الماضي: «أنا من عائلة - طبقة - متوسّطة، أمي وأبوي سنة يجمعون يسفرونا وسنة نجلس في الرياض، ما عندنا شيء في الرياض».
على أن واقع المسألة هنا مختلف، إذ لا يقتصر على تشريع الدولة الأبواب الاستثمارية، بل يتعدّاه إلى أن تعمل عبر أجهزتها على تنظيم هذه العملية الاستهلاكية العملاقة، لتتّخذ أكبر أشكالها في «موسم الرياض» - الذي تحمل إقامته في العاصمة أبعاداً سياسية -، عبر استضافة أبرز الفرق الفنية والموسيقية العالمية والأبطال الرياضيين وأرقى المطاعم و«الماركات» العالمية في مهرجان واحد. وبالاستعارة من الأدبيات الماركسية، فصورة ولي العهد في سماء المهرجان هي تمثيل لعلاقة صنمية بين المجتمع والسلعة، فالأمير هنا هو الصنم الذي تتقرّب به الجماهير نحو السلع والاستهلاك، ولتتحوّل صيحات العرب الجاهلية من «أُعْلُ هُبل» إلى «أُعْلُ الأمير».

النعمة الموفورة والحق المُضيَّع
عند الحديث عن أيّ مشروع في الخليج العربي، من «مهرجان دبي للتسوّق» إلى «موسم الرياض» وصولاً إلى كأس العالم في قطر، يمتزج الطابع الاستهلاكي بعملية الترويج للوطنيات الخليجية، سواءً عبر بثّ روحها في المواطنين أو الترويج لهذه الدول على المسرح العالمي، وهذا ما يحكم العروض الترويجية لتلك المشاريع بمختلف أحجامها. ومع تضخّم الأنا السعودية، يبرز الحرص على إظهار النجاح والإبداع والإنتاجية في هكذا مشاريع، في مقابل تغييب كامل للعمال الآسيويين، يلاحظه المرء حتى في اختيار زوايا آلات التصوير، وفي إظهار عمليات التشييد وكأنها تمّت بنفسها، وأن الشاحنات والآليات تتحرّك بشكل ذاتي، علماً أن الدعامة الأساسية لكلّ ذلك هي طبقة العمّال الآسيويين معدومة الحقوق، والتي تعمل كاليد الخفيّة والقاعدة التي تطؤها أرجل المواطنين في حال الثمالة الاستهلاكية والتسوّق والترفيه. وفي ظلّ الشكل التاريخي الحالي للرأسمالية، يكون من البلاهة الظنّ بعدم ترابط أشكال مراكمة الثروة بشكل عابر للحدود، بمعنى أنه لا وجود لأيّ زاوية بؤس في العالم إلّا وهنالك رجل أبيض يراكم الثروة من خلالها. وفي وطننا العربي، وضمن النموذج نفسه وبشكل مصغّر، لا وجود لزاوية بؤس من دون وجود عربي آخر في زاوية ما يراكم عبرها الثروة، أو أن شرط وجود الثروة والحالة الاستهلاكية في مكان ما، مربوط حكماً ببؤس في جغرافيا عربية أخرى.
هذه الحقيقة هي العدسة التي يجب أن ينظر بها العربي إلى أيّ جغرافيا عربية، من دون الوقوع في فخّ الانعزاليات، حتى في تحليل الظواهر والمشاريع المؤطّرة بحدود وهُويات ضيقة. فحين النظر إلى الحالة الاستهلاكية الخليجية، فنحن نرى عرباً لهم نصيبهم من مأساة التدهور التاريخي العربي، وآلية مراكمة الثروة في هذا العالم، ليعيشوا تحت تهديد الاستلاب والغربة عن الذات. ومن ناحية شخصية، وأنا أحضر الاحتفاليات وحماس الشباب والشابات، يراودني سؤال: ما هو الوازع الفكري لدى هؤلاء فيما لو سُئلوا عن التطبيع مع العدو الإسرائيلي؟ وما سيكون جوابهم حين المقايضة بين الموقف السياسي تجاه مشروع التسوية والحفاظ على ذلك الامتياز الاقتصادي؟ هنا، لا يمكن الفصل بين التعبئة الإيديولوجية النيوليبرالية وجملة المشاريع المصيرية التي يواجهها المشرق العربي، بل إن التعبئة المذكورة هي جوهر تلك المشاريع التي ستحدّد مستقبل الشعوب العربية ككلّ، ومن هنا تأتي المسؤولية لمجابهتها.
من المفارقات، تزامن حشد عشرات الألوف في افتتاحية «موسم الرياض»، مع الحشود المليونية على بعد مئات الكيلومترات احتفالاً بالمولد النبوي في اليمن. والمسألة هنا أبعد ما تكون عن المقارنات ذات الطابع الثقافي، مع التأكيد على أن الاحتفال بالمولد النبوي هو أحد أجمل المظاهر الثقافية العربية، التي تتّخذ أشكالاً عدّة على امتداد الخريطة العربية. وهي احتفالية استبعدتها الوهابية فقهياً من باب «البدعة»، فيما يستبطن الاستبعاد اليوم، مع نزع البعد الفقهي للوهابية، أسباباً أخرى، في ظلّ غياب السعودية عن المظاهر الاحتفالية بالمناسبة في العالم الإسلامي. ويعبّر تزامن المظهرَين عن جوهر الشرخ الاقتصادي السياسي الذي يعيشه الوطن العربي. ففي حين تبرز إعلانات «موسم الرياض» في شوارع لندن ونيوكاسل في ظلّ علاقة ترويجية واستثمارية بين الرياض ولندن، فإن العلاقة الاستثمارية التي تجمع الأخيرة بصنعاء هي استمرار تدفّق صفقات السلاح على السعودية، والتي وصلت قيمتها إلى 6.9 مليارات جنيه إسترليني منذ آذار 2015. بالنتيجة، حيث تلعب دول دورها في الرأسمالية العالمية كمستهلكين مثابرين، يلعب اليمن وشعبه الدور نفسه، على قاعدة إن كنت فقيراً ولا تملك القدرة الشرائية للاستهلاك، فأنت وطفلك وقريتك وبنيتك التحتية ستُستهلكون بالحروب ودورة إنتاج وبيع السلاح. في هذا الفصل من تاريخنا العربي، أصل تقسيم شعوبنا يكمن في عربي مترف يستهلك، وأخيه العربي الآخر الأضحية، في ظلّ ديمومة بؤس يراكم الثروة فيها رجال بيض ذوو ربطات عنق في واشنطن ولندن وتل أبيب.