دمشق | معارك عنيفة شهدتها مدينة جسر الشغور في ريف إدلب الغربي، خلال الأيام القليلة الماضية، وصولاً إلى الأطراف الشمالية لمحافظة اللاذقية شمال غربي سوريا، بعد أن شنّت «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) التي يقودها أبو محمد الجولاني، هجوماً على مواقع تتحصّن فيها فصائل «جهادية» تضمّ مقاتلين أجانب (يُطلَق عليهم لقب المهاجرين، في مقابل الأنصار الذين يمثّلون المقاتلين المحليين). هجومٌ يبدو أنه يندرج في إطار سعي أنقرة إلى تنفيذ التعهّدات التي قطعتها في «اتفاقية سوتشي» مع موسكو عام 2018، وما تبعها من بروتوكولات ملحقة، بفتح طريق حلب – اللاذقية (M4)، وعزل الفصائل «الإرهابية»، وذلك بالاتّكاء على عصا الجولاني، الذي دأبت تركيا على التسويق لـ«اعتداله»
بحجّة قتال «الخوارج والغلاة»، شنّ مقاتلو «هيئة تحرير الشام» هجوماً على مواقع تتحصّن فيها فصائل «جهادية» تضمّ مقاتلين أجانب، على رأسها «جنود الشام» التي يقودها مراد مارغوشفيلي الملقّب بـ«مسلم أبو وليد الشيشاني»، وجماعة «أبو فاطمة التركي»، على أطراف مدينة جسر الشغور، وصولاً إلى جبل التركمان في ريف اللاذقية، أدّت في مرحلتها الأولى إلى استسلام الشيشاني وخروجه من مناطقه، في وقت لا تزال فيه الاشتباكات جارية في بعض المواقع. الهجوم الذي شنّته «الهيئة» سبقته ترتيبات عديدة للتمهيد له، عن طريق تكثيف الضخّ الإعلامي الذي تمارسه أذرعها ضدّ تلك الفصائل من جهة، وعقد اجتماعات مع بعض قادتها لإقناعهم بالخروج من مناطقهم كمرحلة أولى، ومن سوريا بشكل عام في المرحلة الثانية، الأمر الذي ردّ عليه هؤلاء بالرفض ابتداءً، خوفاً من الوقوع في «أسر الهيئة»، وفق ما ذكره الشيشاني، في تسجيل سابق نشره على بعض منصّات التواصل الاجتماعي.
مصادر «جهادية» أشارت، في حديثها إلى «الأخبار»، إلى أن هجمات الجولاني كانت منظّمة، حيث استهدفت مقرّات متباعدة لـ«الجهاديين» بشكل متزامن، كما تمّ استعمال طائرات بدون طيّار لرصد تحرّكات المقاتلين في المناطق الوعرة، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات حصار مدروسة لبعض المواقع، الأمر الذي أدّى إلى اقتناع عدد من الفصائل، وعلى رأسها «جنود الشام» التي يقودها الشيشاني وجماعة أخرى، بالبحث عن وساطة، لينتهي الأمر إلى إخلائهما مقرّاتهما وخروجهما من مناطق سيطرتهما، بعد الحصول على تعهّدات بعدم المساس بقادتهما، مقابل تسليم أشخاص مطلوبين لـ«الهيئة»، وهو ما جرى تنفيذه. وتوقّعت المصادر أن تُعقد اتفاقات مماثلة مع ما تبقّى من فصائل، لافتة في الوقت ذاته إلى أن بعض مقاتلي تلك الجماعات، وعلى رأسها «جماعة أبو فاطمة التركي»، والذين تذرّع الجولاني بهم لبدء الحملة، لا يزالون يقاومون في عدّة مناطق، بالإضافة إلى أن عدداً من مقاتلي «تحرير الشام» وقعوا في أسرهم، ما يعني استمرار المواجهات في حال لم تتوصّل الوساطات إلى إقناع بقيّة الفصائل بالخروج من مناطقها وتسليمها لـ«الهيئة».
هجمات الجولاني كانت منظّمة واستهدفت مقرّات متباعدة بشكل متزامن


ويأتي الهجوم الجديد في سياق تفاعلات العلاقات المتينة بين تركيا والجولاني، الذي تحوّل إلى ذراع تركية في مناطق سيطرته، حيث عملت أنقرة خلال الأعوام الخمسة الماضية على تسويقه على أنه «معتدل»، بعد إعلانه فكّ ارتباطه بـ«القاعدة»، كما أنشأت معه شراكات أمنية واقتصادية شملت عمليات توريد وتوزيع للمحروقات وأعمال بناء وغيرها. في المقابل، أخذ الجولاني على عاتقه مهمّة تصفية فصائل «جهادية» كان حليفها حتى وقت قريب، بل وقاتل عناصرها تحت إمرته في مناطق عدّة، وذلك سعياً منه للانفراد بالسلطة في مناطق سيطرته، وتنفيذاً للأوامر التركية التي تخشى تسرّب تلك الفصائل إلى أراضيها من جهة، وتسعى إلى الظهور أمام موسكو بأنها تقوم بـ«عزل الإرهابيين» من جهة ثانية. وعلى الرغم من كون الحملة الأخيرة التي ينفّذها الجولاني ستمهّد الأرض أمام تركيا لفتح طريق حلب – اللاذقية، إلّا أن ثمّة شكوكاً حول مدى قبول دمشق وموسكو بهذه المعادلة التي تقتضي فتح الطريق واستمرار إشراف تركيا عليه، بعدما رفضتاها العام الماضي عندما خاض الجيش السوري معارك عنيفة مع الجيش التركي الذي كانت تؤازره «هيئة تحرير الشام»، التي تَعتبرها سوريا وروسيا جماعة «إرهابية»، للسيطرة على طريق حلب – دمشق (M5)، وانتهت بانسحاب تركيا من الطريق بعد تعرّضها لخسائر بشرية كبيرة، لتسيطر دمشق عليه وتقوم بفتحه.
وسبقت العملية الجديدة للجولاني سلسلة لقاءات عقدها العراقي «أبو ماريا القحطاني»، القيادي في «هيئة تحرير الشام»، مع مسؤولين من فصائل سوريّة تعمل تحت قيادة تركيا في مناطق شمالي سوريا وشمال شرقيّها، لترتيب عمليات اندماج تسعى أنقرة إلى إتمامها خلال الفترة المقبلة، بهدف توحيد السلطة في مناطق سيطرتها في سوريا من جهة، ودمج «هيئة تحرير الشام» في مشاريع أخرى لتلميع صورة الجولاني من جهة ثانية، الأمر الذي يعتبره الأخير فرصة لمدّ نفوذه إلى مناطق إضافية. كذلك، تثير حملة «تحرير الشام» تساؤلات عديدة حول مصير «الجهاديين» الذين يقرّرون الانسحاب، والأماكن التي ستقوم تركيا بنقلهم إليها، خصوصاً أن الاتفاق الذي قبل به الشيشاني يقضي بخروجه ومقاتليه من سوريا، ما قد يولّد مخاطر على مناطق أخرى، سواءً في ليبيا التي عملت أنقرة على إرسال مقاتلين إليها، أو حتى أفغانستان، الأمر الذي سيمثّل تهديداً لروسيا.