القاهرة | فعل المصريون عكس المتوقع منهم ليثبتوا للجميع أن لا أحد يمتلك «كتالوج» هذا الشعب؛ ففي الوقت الذي توقع فيه المراقبون إقبالاً كبيراً من الناخبين على اللجان الانتخابية، إذا باللجان تبدو خاوية على عروشها، ما دعا القائمين على الانتخابات إلى دراسة تمديد التصويت بعدما ظهر من يتوسل الناخبين، ثم يهددهم بفرض غرامات على المتخلفين عن التصويت، أو ترغيب آخرين بإعطاء المصريين إجازة في اليوم الثاني للانتخابات.
وبعد مقاطعة شرائح واسعة من الشباب الانتخابات الرئاسية، برزت ظاهرة أخرى بمشاركة السيدات بكثافة عالية في اللجان الانتخابية، وهو أمر لعبت عليه وسائل الإعلام المصرية لمدة طويلة من أجل حث الناخبات على التصويت. وفعلاً استجابت المصريات بكثافة ليسجلن عدداً من «الظواهر الناعمة»، مثل الرقص والزغاريد أمام اللجان، وأبرز حدث في السياق كان احتضان ناخبة وزير الداخلية محمد إبراهيم.
وقال رئيس قسم الطب النفسي في جامعة الأزهر، محمد المهدي، في تحليله هذه الظاهرة التي رافقت الانتخابات، إن هناك توجهاً من الدولة هدفه تحويل الانتخابات إلى «حالة عاطفية وانفعالية» تحرفها عن هدفها الأساسي الذي يجب أن يكون تنافسياً في الأفكار والبرامج بين المرشحين. وأضاف لـ«الأخبار»: «هناك من يسعى إلى إظهار المصريين كأنهم شعب من الراقصين، وهو ما ظهر في أغنية (بشرة خير) في إطار الصورة التي تسعى الدولة إلى تصديرها ومفادها أن البلاد تمر بحالة من الاحتفالات المبهجة، وهو أمر بعيد كل البعد عن الصور المحترمة التي تتنافس فيها شعوب الدول لاختيار رئيس وفق حسابات العقل واستعراض مزايا المرشح وعيوبه».
ورأى المهدي أن «الرقص الانتخابي» مبالغة احتفالية ودليل واضح على تراجع الرؤية النقدية، «كما فيه تغليب للجانب العاطفي بنسبة كبيرة، خصوصاً لدى المناطق العشوائية التي يميل سكانها إلى الانفعال اللحظي، وهي فئات سريعة الغضب والتحول، خاصة أن المزاج المصري متقلب جداً»، موضحاً بالقول: «الشارع استجاب لما صدّرته وسائل الإعلام التي صنعت صورة الزعيم الملهم صانع الأمان والاستقرار، وهو ما فجّر حالة تلقائية من الفرح ظهرت في الغناء والرقص، إضافة إلى رغبات بعضهم التشفي والمكايدة السياسية ضد الإخوان المسلمين».
وكان «كرنفال الرقص» قد ظهر على استحياء أيام الاستفتاء على دستور 2014، قبل أن يعاود البروز في الانتخابات الرئاسية الجارية ضمن ظاهرة انتشرت أمام اللجان وشاركت فيها شرائح ممثلة لغالبية مكونات المجتمع المصري، حتى إنها انتقلت للمرة الأولى إلى أحياء راقية من العاصمة مثل الزمالك وجاردن سيتي ومصر الجديدة.أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور حازم حسني قال من جانبه إن المصريين بطبيعتهم يحبون الرقص والغناء، «وهي استراتيجية استغلها النظام القديم أيام مبارك باعتماده إلهاء المواطن عن جوهر القضايا الحقيقية التي تواجهها البلاد وجذبه إلى الاهتمام بمباريات كرة القدم والأغاني التي يظهر فيها رتم وإيقاع الفرحة، وهو أمر تستعذبه الجذور المكونة للشخصية المصرية».
وتابع حسني حديثه إلى «الأخبار»: «نظام 3 يوليو أعاد إنتاج الظاهرة واستخدامها مرة أخرى وتكثيف الضوء الإعلامي عليها للتغطية على الرسائل الفاسدة التي تفاقمت خلال المدة الماضية، وعجزه عن حل القضايا الخطيرة والتحديات التي تواجه المجتمع، فقرر مواجهتها بنوع من الإغراق في المظاهر وإعطائها مسحة سوقية عبر الأغلبية العددية في المجتمع التي تمثلها الطبقات تحت المتوسطة والفقيرة».
واتفق حسني مع المهدي في أن الترويج الإعلامي الزائد لمظاهر البهجة لا ينفي أن الشعب المصري بطبيعته يميل إلى المبالغة في الفرح، لكن النظام وفق رأيهما يروّج لها لاجتذاب القطاعات العريضة من المصريين غير المهتمين بالسياسة أو الحديث فيها بعمق، «وربطهم ذهنياً بعد توظيفهم سياسياً عن طريق الفنون».