لطالما انطوت العلاقة بين زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر وإيران، على مفارقات. فالرجل هو الأكثر تردّداً على هذا البلد من بين القادة العراقيين، حيث يتابع دروسه الدينية في مدينة قم، ومع ذلك هو الأكثر اختلافاً في السياسة بينهم عن طهران، ويصل في الكثير من الأحيان إلى مغازلة خصوم الجمهورية الإسلامية الإقليميين والدوليين. هذه المفارقة ظهّرتها، واضحة، الانتخابات الأخيرة التي خاضها الصدر ضدّ حلفاء إيران من القوى «الشيعية» الأخرى وخاصة «تحالف الفتح»، الجناح السياسي لـ«الحشد الشعبي»، وحصل خلالها «التيار الصدري» على 72 مقعداً في مجلس النوّاب المكوّن من 329 مقعداً، ليصبح الكتلة الكبرى فيه. لكن بحسب مصادر عراقية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن الصدر أرسل إلى إيران، وجهات أخرى، أنه يريد التوصّل إلى حلّ مع منافسيه «الشيعة» لمسألة اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. وأضافت المصادر أن الصدر عرض أن يقوم هو باقتراح أسماء عدّة لرئيس الحكومة، على أن يتمّ الاتفاق على واحد منها مع القوى «الشيعية» الأخرى، من دون أن تجزم ما إن كان رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، من بين تلك الأسماء، لارتباط ذلك بما إذا كان الصدر أعطى الكاظمي وعداً قبل الانتخابات بدعم استمراره على رأس الحكومة، على رغم أن الفصائل المنضوية في «الإطار التنسيقي» تتّهم رئيس الوزراء بالمساهمة في تزوير الانتخابات.على أن المشكلة الأساسية في العلاقة مع الصدر أنه لم يكن دائماً ينفّذ ما يَعِد به، ويجد طريقه إلى التملّص منه، وإذا نفّذ شيئاً يفعل ذلك بشكل جزئي، وثمّة خشية من اعتماده هذا التكتيك الآن أيضاً، لأنه في الإجمالي، واصل الزعيم الشيعي عبر السنوات، السير في خطّه الخاص. لكن المصادر أشارت إلى أن ثمّة واقعاً يفيد بأن الزعيم «الشيعي» لا يستطيع القفز فوق معادلة القوّة الموجودة في العراق اليوم، حتى لو كانت لديه الكتلة النيابية الكبرى. فالأطراف «الشيعية» الأخرى ما زالت قوية في مجلس النواب وفي الشارع، وفوق هذا هي متكتّلة ضده، بسبب ما ترى أنه سرقة لأصوات ناخبيها، وفق ما أظهرت تطوّرات الأيام الأخيرة لناحية خروج تظاهرات احتجاج على نتائج الانتخابات، وقيام لواءين من «الحشد الشعبي» بالدوران حول «المنطقة الخضراء» التي تضمّ مقرّات الحكومة وعدداً من السفارات. وعليه، فإن الجميع يتصرّف على أساس أن الحلّ الوحيد في المرحلة الحالية هو التوصّل إلى تسوية، لأن استمرار الخلاف سيؤدي إلى انفجار كبير للنزاع في العراق لا يمكن التكهّن بنتائجه. لكنّ حلّاً مثل هذا يحتاج أوّلاً إلى وقت للتوصّل إليه، ولن يكون بلوغه سهلاً، وهو سيؤجّل، ثانياً، الخلافات إلى وقت لاحق ولن يمحوها، كما أنه قد يتطلّب تصحيحاً لنتائج الانتخابات يؤدي إلى زيادة، ولو محدودة، في حصة القوى «الشيعية» المعترضة على نتائجها.
يعتقد الصدر أنه حَقّق من خلال هذه الانتخابات قفزة كبيرة على طريق حكم العراق


لا يلغي ما تقدّم، وفق المصادر نفسها، أن هناك واقعاً جديداً نشأ في العراق يجب التعامل معه، وأن الصدر لديه مشروع يسعى إلى تحقيقه، إن لم يكن ممكناً دفعة واحدة، فعلى مراحل، ولديه علاقات وارتباطات. صحيح أنه لا يستطيع الخروج كلّياً من تحت العباءة الإيرانية، وربّما لا يريد، لأنه يدرك طبيعة العلاقة المتداخلة بين البلدين، إلا أنه يسعى إلى علاقة مختلفة مع إيران. وعلى رغم أنه يقضي الكثير من وقته في قم، حيث يتابع دراساته الدينية، إلا أن المدينة نفسها تضمّ حوزات متنوّعة، وتحتضن عدّة مجتهدين. ويسعى مقتدى إلى إحياء مرجعية والده الشهيد محمد محمد صادق الصدر، الذي يستمدّ الابن معظم شعبيّته من تراثه كمناضل ضدّ نظام صدام حسين واستشهاده على يد هذا النظام. ويَعتقد الزعيم الشاب أن الطريق أصبحت مفتوحة أمامه بعد الانتخابات، لأن يصبح «زعيم الشيعة» في العراق، وصاحب الكلمة الأولى في كلّ شؤون البلد، على رغم الشوائب التي اعترت الانتخابات، ولا سيما نسبة الاقتراع المتدنّية، والحديث عن مال خليجي، إماراتي وسعودي تحديداً، انصبّ على المعارضين لـ«الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة العراقية والقوى السياسية المؤيدة لها، الأمر الذي يجعل له مصلحة في التوصّل إلى حلّ الآن، حتى يمكنه أخذ وقت إضافي استعداداً لجولة مقبلة من النزاع ذاته الذي سوف يتجدّد بكلّ تأكيد.
ولعلّ أكثر ما يثير القلق بالنسبة إلى معارضيه من الشيعة العراقيين هو علاقات مقتدى الصدر الخارجية. فكثيرون من المقرّبين منه، لهم علاقات وثيقة ببريطانيا، حيث كانوا يقيمون أيام المنفى، ولا سيما السفير العراقي في لندن، شقيق زوجته وابن عمه جعفر محمد باقر الصدر. كذلك، هو دعا علناً الحكومة العراقية إلى علاقات طيّبة بالسعودية والإمارات، في الوقت عمل فيه البلدان ضمن جدول أعمال أميركي في العراق، تحت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. كما دان الصدر هجوماً صاروخياً على السفارة الأميركية في بغداد في نيسان الماضي، وعرض نشر «سرايا السلام» التابعة له في المنطقة الخضراء، لحماية مقرّات البعثات الأجنبية، على رغم أنه شارك في المقاومة ضدّ الاحتلال الأميركي الذي حاصره شخصياً في النجف في عام 2004، أي بعد سنة واحدة على الغزو. وعليه، فإنه حتى لو تمّ التوصّل إلى تسوية تؤدي في النتيجة إلى تشكيل حكومة جديدة، فإن عمل هذه الحكومة لن يكون سهلاً، بحسب المصادر نفسها، التي تتوقّع استمرار التوترات في الشارع بين أنصار «التيار الصدري» وأنصار القوى «الشيعية» الأخرى، بعد أن أدت الانتخابات إلى فرز أكثر وضوحاً بين الجانبين، اللذين سيستخدم كلّ منهما إمكاناته ووجوده في الحُكم لمحاولة إزاحة الآخر.