القاهرة | ظلّ اختيار رؤساء الهيئات القضائية من قِبَل رئيس الجمهورية سارياً قانونياً حتى انتفاضة 2011، حيث جرى تقييده بضوابط منحت القضاء استقلالية كاملة في هذا المجال. إلّا أن التعديلات التي جرى إدخالها على قانون السلطة القضائية، فور وصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، وإعادة أحقّيته في تعيين رؤساء الهيئات القضائية، جعل النظام يعود للتحكّم في القضاء، ولكن بصورة فجّة وغير مسبوقة. وعلى رغم أن السيسي صدّق على قانون تعديل اختيار رؤساء الهيئات القضائية، في عام 2019، غير أن التمكين لم يحدث سوى منذ أشهر عدّة، في ظلّ تطبيق القانون الجديد على جميع الهيئات، مع خروج رؤسائها السابقين إلى التقاعد. بالتالي، جاءت اختيارات الرئيس للرؤساء المعيّنين، نظريّاً، من بين ترشيحات قُدّمت له، بينما كانت عملياً بتوصية من الاستخبارات، التي دفعت هؤلاء القُضاة إلى صدارة المشهد.ومع بداية العام القضائي، في الشهر الحالي، جمعت الاستخبارات مختلف رؤساء الهيئات القضائية أمام الرئيس، في احتفالية "يوم القضاء المصري"، التي بُثّت على شاشات التلفزيون. وتخلّل الاحتفالية تكريمٌ لقضاة راحلين، بينما بدا، بشكل واضح، نجاح السيسي في تنفيذ استراتيجية السيطرة الكاملة على القضاء، من خلال الرؤساء المُختارين الذين ذهبوا بعيداً في إشادتهم به لاحقاً. ولم يكن من المُتعارف عليه ظهور رؤساء الهيئات القضائية على الشاشات إلّا نادراً، لكنّ ما جرى ترتيبه ومراجعته، هو ظهورهم المكثّف للحديث عن استقلال القضاء. وقد جاء ذلك في موازاة محاولة السيسي تحسين صورته، في وقت جرى إدخال المرأة إلى مجلس الدولة، إضافة إلى تمرير مشروع الحكومة بشأن تنظيم المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، الذي تمّ إيقافه قبل عامين بعد اعتراضات القضاة.
وعلى رغم أن المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية - والذي جرت استعادة النصّ على وجوده في التعديلات الدستورية التي مدّدت ولاية الرئيس، ومنحته فرصة الترشّح حتى انتخابات عام 2024 - كان منصوصاً على وجوده في الدساتير السابقة، حتى عام 2008، عندما جرى إلغاؤه، لكنه لم يكن فعّالاً أو ذا تأثير واضح، إلى درجة أنّ مرّات اجتماعه إبّان حكم الرئيس الأسبق، حسني مبارك، لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة. أمّا ما يرغب به الجنرال، حالياً، فهو استكمال السيطرة، عبر إجبار المجلس على الاجتماع كلّ ثلاثة أشهر، على الأقلّ، لإجراء المداولات بشكل سرّي، في الوقت الذي يُفترض أن يكون اجتماع الرئيس مع رؤساء الهيئات القضائية بروتوكولياً، مرّة كلّ عام كحدّ أقصى. ويعتزم السيسي إجراء تعديلات، من خلال المجلس، مرتبطة بشروط التعيين في الجهات القضائية، وتحديد حدٍّ أقصى للعمالة، وتحقيق المساواة بين مختلف الهيئات القضائية، وهو أمرٌ سيتضرّر منه عددٌ محدود من القضاة، مثل قضاة المحكمة الدستورية ومجلس الدولة، فيما سيستفيد منه قطاع عريض من القضاة والمحقّقين في بقيّة الهيئات.
جمعت الاستخبارات، في الشهر الجاري، مختلف رؤساء الهيئات القضائية أمام الرئيس


ويواصل السيسي إعادة هيكلة القضاء المصري من منظوره الشخصي، وهو أمرٌ لا يقتصر على آلية تعيين رؤساء الهيئات، ولكن على التعامل مع القضاة، بشكل عام. ففي مقابل التنازلات التي يقدّمها لهم من أجل تعيين أبنائهم وأشقائهم وإعطائهم الأولوية، كلّ عام، بنسَب تتخطّى الـ50 في المئة من المتقدّمين، ينتزع مزيداً من الصلاحيات التي تتيح له التدخّل. ويبرز ذلك، بدايةً، من خلال الاتجاه إلى وقف عمليات النقل والانتداب وتقليص المستحقّات المالية، ومنع الانتداب في عدّة جهات حكومية، وصولاً إلى اقتصار تقديم خرّيجي الحقوق على جهة قضائية واحدة، وإغلاق باب الانتقال مستقبلاً بين الجهات القضائية. كذلك، أدخل السيسي المرأة في مجلس الدولة، عبر تعيين 98 سيّدة دفعة واحدة، نقلاً من هيئات قضائية أخرى وتنفيذاً لقرارٍ رفضه قضاة المجلس منذ تأسيسه. لكن في المقابل، جاءت نسبة المعيَّنات من بين شقيقات وبنات وزوجات القُضاة لتفوق الـ60 في المئة، في وقت سيُسمح فيه، للمرّة الأولى، لخرّيجات الحقوق بتقديم أوراقهنّ للالتحاق بمجلس الدولة عند فتح باب التعيين، العام المقبل.
فضلاً عن ذلك، لم يَعُد يكفي أن يكون سجلّ المتقدّمين للالتحاق نظيفاً من المخالفات الجنائية، ولكن أيضاً أن يكون ولاؤهم للرئيس، وأن يزكّوا سياساته و"إنجازاته"، وهو سؤال تكرّر للعديد من المتقدّمين في المقابلات التي يتمّ إجراؤها للخرّيجين الجدد. ومع أن رؤساء الهيئات القضائية لن يحصلوا على أيّ مكتسبات، بعد مغادرتهم مناصبهم، سوى بعض الامتيازات المالية الإضافية لحصولهم على تكريمات رئاسية، ولكن يبقى الهمّ الأكبر لدى غالبيتهم هو أن يستمرّوا في توريث أبنائهم المناصب داخل مختلف الهيئات. ويدفعهم ذلك إلى تنفيذ التعليمات من دون نقاش، فالرئيس لا يتدخّل في الأحكام، ولكنه يوجّه القضاء في اتجاه إصدارها، بشكل غير مباشر، بما يخدم سياساته.