قد يكون من المبكر قراءة النتائج الكاملة للانتخابات النيابية العراقية. لكن ما يمكن تسجيله، من دون مجازفة كبيرة، هو أنها حملت قدراً من التغيير، يستدعي من المعنيّين التمعّن في ما حصل وأدّى إليه، والذي بدوره لن يَظهر كلّه، وخصوصاً المال الخليجي الذي صبّ التصويتُ في الوجهة التي كان يرنو إليها. ومع كلّ ذلك، لن يكون يسيراً على ائتلاف القوى الذي سيحكم العراق في ولاية مجلس النواب المنتخَب، إدارة البلد بمعزل عن القوى الأخرى. «التيّار الصدري» حصل على تفويض ما ليكون له تأثير أكبر في قيادة البلاد في المرحلة المقبلة، ولكن موقع التيّار نفسه على الخريطة السياسية يظلّ بحاجة إلى تحديد دقيق، على رغم أن الصدر كان دائماً ما يضع نفسه في خانة المعارضة، حتى وهو في السلطة والإدارة، مشارِكاً بِمَن يسمّيهم مباشرةً وزراء ومدراء عامّين وموظفين كباراً، أو بِمَن ينسبون أنفسهم إليه. وبهذا المعنى، لا يمكن القول إن الانتخابات كانت احتجاجاً على مَن هم في الحُكم، فـ«التيّار الصدري» كان في السلطة وحَقّق نصراً باهراً؛ ومحمد الحلبوسي شغل خلال ثلاث سنوات موقع رئاسة مجلس النواب، وأحرز أيضاً تقدّماً كبيراً؛ والأمر ذاته ينطبق على «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، الذي يحوز الجزء الأكبر من السلطة في «كردستان العراق»، ويستعدّ الآن للاستئثار بحصّة «الأكراد» منها في بغداد، علماً أن الحلبوسي يمثّل عملياً «رجل الإمارات» في العراق، بينما لا حاجة إلى التحدّث عن ارتباطات مسعود بارزاني الخارجية.
حصل «التيّار الصدري» على تفويض ما ليكون له تأثير أكبر في قيادة العراق في المرحلة المقبلة

خريطة الطريق التي رسمها تحالف الفائزين واضحة، وهو تحالف تَشكّلت معالمه قبل الانتخابات، ولكن كان من الضروري عدم الإعلان عنه: أوّلاً لأنه لم تكن ثمّة حاجة لدى أيّ من أطرافه إلى بقيّة «شركائه»، خلال العملية الانتخابية ذاتها، بسبب قانون الصوت الواحد وتصغير الدوائر؛ وثانياً لأنه كان يمكن لإعلان التحالف أن يستحثّ كتلة ناخبة معارِضة له على المشاركة، بينما المطلوب تنويم هذه الكتلة مغناطيسياً، عبر تفتير همّة الناخبين المنتمين إليها، في الوقت الذي يفعل فيه المال الانتخابي فعله في تحفيز من يُراد تحفيزه للتصويت. على أيّ حال، الواضح أن هذا الائتلاف لا يريد أقلّ من تغيير السلطة في العراق، ليس بالمعنى الخدمي لوظيفة الدولة، وإنما بمعنى دورها السياسي وانتمائها إلى التكتّلات الإقليمية، ولذلك عنوان واحد هو إضعاف «الحشد الشعبي» الذي هيمن على المشهد العراقي منذ نجاحه في طرد تنظيم «داعش» من العراق، وغُدوّه، بعد هزيمة التنظيم، مثار جدل في معرض البحث عن «توصيف وظيفي» جديد له، بين أن يَترك السياسة نهائياً ويندمج عناصره في القوى الأمنية، أو أن يظلّ قوّة احتياط مستقلّة لحماية العراق من الأخطار المحتملة. لكن السيناريو الأسوأ هو الذي حصل، حيث انغمس الحشد في السياسة كلّياً، والأخطر أن طموحات قادته الشخصية تفوّقت على مصلحة المؤسسة، وكانت النتيجة خسارة انتخابية مدوّية.
تَنبّه حلفاء «الحشد» الإقليميون مبكراً إلى هذا الواقع، لكن لم يكن بالإمكان فعل الكثير، خاصة أن دور «الحشد» نفسه تراجَع مع هزيمة «داعش» واستعداد القوات القتالية للاحتلال الأميركي لمغادرة العراق بحلول نهاية العام الجاري - ما خلا بعض المستشارين الذي جرى الاتفاق مع حكومة بغداد على بقائهم للمساعدة في تدريب قوات الأمن، بل إن المعلومات تفيد بأن قوى في محور المقاومة هي التي أقنعت الصدر بالعودة عن قراره مقاطعة الانتخابات، وهو الأمر الذي ساهم، بلا أيّ شكّ، في رفع نسبة التصويت له. لكن انخفاض كتلة «تحالف الفتح» النيابية المُمثِّلة لـ«الحشد» شيء، ونقل العراق إلى موقع مختلف شيء آخر. الأمر الثاني يحدّده سلوك القوى الفائزة في الانتخابات، ولا سيما «التيّار الصدري»، كونه المتصدّر بـ73 نائباً لصالح ائتلاف «سائرون» - من أصل 329 عضواً في مجلس النواب المنتخَب - مقابل 54 نائباً في المجلس المنتهية ولايته. والتيّار، ممثَّلاً بزعيمه مقتدى الصدر، يجاهر بعدائه للأميركيين وإسرائيل، وإنّما لديه مقاربة مختلفة نوعاً ما لطريقة إدارة علاقات العراق مع محيطه الإقليمي. وحتى لو كان يملك أكبر كتلة برلمانية، فهو لن يستطيع اختزال التمثيل الآخر، سواءً على المستوى الوطني أو «الشيعي»، حيث لا يزال يتعيّن عليه أن يتقاسم التمثيل مع «تحالف الفتح» برئاسة هادي العامري، و«ائتلاف دولة القانون» الذي يتزعّمه نوري المالكي، و«تيّار الحكمة» برئاسة عمار الحكيم، ونوّاب مستقلّين.

ثمّة تساؤلات كثيرة أحاطت بقانون الانتخاب الذي يُضعف التأثير السياسي للتصويت


من جهة أخرى، ثمّة تساؤلات كثيرة أحاطت بقانون الانتخاب الذي يُضعف التأثير السياسي للتصويت، لمصلحة التأثيرات المناطقية والعشائرية. ومن المعروف، في هذه الحال، أن التيّارات الشعبية، من مِثل «التيّار الصدري» الذي لديه مؤسّسات ذات صلة مباشرة بالناس موروثة من مرجعية والده الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر، يمكنها أن تشكّل مظلّة لطيف أوسع من القوى المحلّية، أكثر مما يمكن ذلك كتلة عقائدية كـ«الحشد الشعبي» الذي تناسبه الدوائر الأوسع والقوانين النسبية. مع هذا، سيكون التغيير الأساسي، وهو ليس بسيطاً، الدخول في ائتلاف مع الحلبوسي وبارزاني. كان واضحاً، منذ ما قبل الانتخابات، إعلان تلك الأطراف الثلاثة رفضها الدخول في حكومات توافقية تضمّ جميع القوى السياسية أو معظمها، وتحميلها الصيغة المتّبعة في الحُكم مسؤولية الفساد الذي يفتك بالعراق، الأمر الذي يقود إلى أنها ستسعى اليوم إلى تشكيل حكومة بمفردها أو بالاتفاق مع قوى صغيرة ومستقلّين، للوصول إلى الـ165 صوتاً الضرورية لنيلها الثقة. سيكون لـ«التيار الصدري»، وفق السيناريو المتقدّم، حقّ اختيار رئيس الوزراء المقبل، فيما يُتوقّع أن يبقى الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب، ويختار بارزاني رئيس الجمهورية. لكن التحالف العتيد لا يملك، على أيّ حال، أغلبية مريحة للحُكم، وبالتالي سيظلّ عدم سيطرة أيّ قوّة واحدة، أو مجموعة من القوى، سيطرة مطلقة على البرلمان، باباً واسعاً لعدم استقرار السلطة، خصوصاً إذا كانت لبعض أطراف التحالف المحتمل مشاريع ذات تأثير على هوية العراق وموقعه. ممّا يُتوقّع أن تسوّغه النتائج أيضاً، إبقاء الكاظمي في موقع رئاسة الوزراء لولاية ثانية، لا سيما أنه قيل إن انسحاب تيّارَي «المرحلة» و«ازدهار» المؤيّدَين له من الانتخابات، جاء في سياق اتفاق مع الصدر على التجديد له، فضلاً عن أن اختيار «التيّار الصدري» مرشّحاً «صريحاً» لموقع رئاسة الحكومة، سيلغي عملياً أيّ مسافة من الحكم يمكن أن يأخذها الصدر، وفق التكتيك الذي يتّبعه التيار، وسيُحمّله بالتالي مسؤولية تركة ليس سهلاً تغييرها، فكيف في ظلّ استمرار تشتّت القوى في البرلمان؟