يُقلق الأميركيين الفراغ الذي سيخلّفونه وراءهم في العراق، والجهة التي ستسارع إلى ملئه. وفق الترتيبات المُتَّفق عليها للمرحلة المقبلة، ستُنهي القوات الأميركية مهامّها القتالية في هذا البلد بحلول أواخر كانون الأوّل المقبل، مدفوعةً برغبة في مغادرة المنطقة للالتفات إلى تحدّيات أخرى تواجهها - وعلى رأسها الصين - من جهة، فضلاً عن القلق الذي يعتريها إزاء واقع تعاظم استهداف مصالحها في بلاد الرافدين من جهة ثانية. وفي خضمّ الاستعداد لطيّ فصل آخر من فصول حرب الولايات المتحدة على الإرهاب، بعد الانسحاب «المزلزل» من أفغانستان، تجيئ الانتخابات العراقية المبكرة لتُضيف «همّاً» آخر إلى هموم الاحتلال، وسط تقديرات تفيد باستمرار صعود خصوم أميركا.ينسحب هذا القلق، بطبيعة الحال، على مراكز الدراسات الأميركية، المنكبّة منذ بعض الوقت على تحليل مآل الانتخابات العراقية التي وإن مثّلت «انتصاراً» لحراك تشرين 2019، إلّا أنها ستؤدي إلى سيطرة القوى السياسية المحسوبة على إيران على مستقبل العراق، بينما تتهيّأ القوات الأميركية لإنهاء مهامّها القتالية في هذا البلد، والتحوُّل إلى «التدريب والاستشارة». في المقابل، يبدو أن هناك تعويلاً أميركياً كبيراً على النتائج التي يُتوقَّع أن يحقّقها «التيار الصدري»، بوصفه «الخيار الأفضل»، والمنافس الأبرز لـ«تحالف الفتح» بقيادة هادي العامري، الذي «انحسرت شعبيته بعد انتفاضة تشرين الأول 2019». ويبدو لافتاً، في هذا الاتجاه، ربْط «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، في مقالة لنوزاد شكري، بعنوان «الانتخابات العراقية: التحالفات الحالية ليست وصفة للتغيير»، «شفافية» الانتخابات بخسارة «الفتح». فالأخير، يقول الكاتب «لن يحتفظ بالموقع الذي فاز فيه في انتخابات عام 2018، بعدما أصبح موقعه أضعف بكثير» على خلفية التظاهرات في «المناطق الشيعية». وعلى رغم تاريخه المشحون مع الغرب، مِن المحتمل أن يصعد «التيار الصدري» بدعم ضمني من واشنطن، إذ ترى المحلِّلة في «مجموعة الأزمات الدولية»، لهيب هيغل، أن «(مقتدى) الصدر ظلَّ يسوّق لنفسه كخيار قابل للحياة، وخيار مركزي في السياسة العراقية».
وفي ظلّ استعداد الولايات المتحدة لتحويل حضورها العسكري في العراق إلى مهمّة «غير قتالية» أكثر محدودية بحلول بداية العام المقبل، «سيتقلّص كثيراً تأثيرها على السياسة الانتخابية». ومن هنا، ينصح «معهد واشنطن» في مقالة بعنوان «انتخابات من دون ديمقراطية في العراق»، واشنطن بتركيز مواردها المحدودة على مجموعة أهداف ضيّقة وقابلة للتحقّق، على النحو المبيَّن في اتفاق الإطار الاستراتيجي بينها وبين بغداد. في التوصيات الواردة، يحثّ الكاتبان بلال وهاب وكالفِن وِلْدر، المسؤولين الأميركيّين على «الاستمرار في الضغط على المدى القريب من أجل إجراء انتخابات ذات مصداقية، تشرف عليها الأمم المتحدة». ولكن «بالنظر إلى اختراق الميليشيات المستمرّ للسياسة، يجب على واشنطن الاعتراف بأن الانتخابات لا تشكِّل المصدر الوحيد للشرعية في العراق»، بحسب الكاتبَين اللّذين يحذّران من أن مَن يصفونهم بـ«عناصر الميليشيات» في البرلمان المقبل، «سيعيدون إحياء المطلب الذي طال أمده: قطْع بغداد شراكتها الأمنية مع واشنطن بالكامل»، وإن كانا متيقّنَين من أن «القيادتَين السياسية والعسكرية العليا في البلاد لا تشاركان هذا الرأي». لهذه الأسباب وغيرها، يحضّ الكاتبان الولايات المتحدة على أن «تعيد تركيز طاقتها تدريجياً على دعم الدولة العراقية، بدلاً من السياسيين أو الأفراد؛ إذ سيرحّب الناس خصوصاً بجهود مكافحة الفساد، والإصلاحات المصرفية، والإجراءات التي تحرِم الأفراد المتواطئين في قتْل ناشطي المعارضة من الشرعية الانتخابية». ويخلصان إلى القول إنه «إذا تمكَّنت واشنطن من قيادة جهد دولي وإقليمي لمساعدة العراق في حلّ المشاكل المذكورة، فإن من شأن هذا الخرق تعزيز صورتها في الداخل العراقي، وتقوية الدولة العراقية، وأخيراً القضاء على شبكة الميليشيات الإيرانية الخارجة عن القانون».
يتّسع حيّز الجدل حول الانسحاب الأميركي من العراق وما يعنيه بالنسبة إلى الشرق الأوسط الأوسع


يتّسع حيّز الجدل حول الانسحاب الأميركي من العراق وما يعنيه بالنسبة إلى الشرق الأوسط الأوسع، في أوساط النُخب الأميركية، التي ترى أنه «يرقى إلى مستوى تسليم البلاد إلى إيران»، وإن كانت تعتقد أن «وجود عدد صغير من القوات الأميركية لتدريب الجيش العراقي، واستمرار مبيعات السلاح الأميركية، وزيادة التعاون الاستخباري بين البلدين»، عوامل يمكن أن تقلِّل من قدرة إيران على السيطرة على العراق بعد رحيل الأميركيين، وفق ما تورد مجلّة «ناشونال إنترست». وفي تقييمها لـ«المخاطر الاستراتيجية لانسحاب الولايات المتحدة من العراق»، تُسلّط مؤسّسة «راند»، في ورقة بحثيّة شارك في إعدادها مجموعة كتّاب ونُشرت منتصف عام 2020، الضوء على واقع أن «طهران تسعى إلى تعظيم نفوذها على البرلمان العراقي ورئيس الوزراء والحكومة، لجنْي الفوائد الاقتصادية من عائدات النفط العراقية والاقتصاد المحلي، ولممارسة النفوذ على قطاع الطاقة العراقي، وللسيطرة على قطاع الأمن من خلال قوات الحشد الشعبي»، لتَخلُص إلى أن «اكتساب الجمهورية الإسلامية نفوذاً مهيمناً في العراق، سيعزِّز بشكل كبير من قدرتها على إبراز قوّتها في المنطقة، وسيعزّز أيضاً موقعها في سوريا ولبنان، وسيزيد من حجم التهديد على جيران العراق الآخرين، وعلى إسرائيل». وبناءً على ما تقدَّم، تورد الورقة مجموعة توصيات، أبرزها: «الاستمرار في تقديم الدعم الفعّال لتنمية الاستقرار والديمقراطية في العراق؛ الموازنة بين مخاطر وفوائد اللاانسحاب والانسحاب المحدود؛ وأخيراً الحفاظ على مهمّة استشارية دائمة للمساعدة في تطوير قوات الأمن العراقية».
وفيما تلفت إلى أن الولايات المتحدة تخسر باستمرار مكانتها في العراق، خصوصاً لمصلحة إيران، منذ سحْب معظم قواتها في عام 2011، قبل أن تعيد بعضهم للقتال تحت مظلّة «التحالف الدولي لمواجهة داعش» الذي تقوده منذ عام 2014، تطرح لهيب هيغل في «مجموعة الأزمات الدولية»، «سؤالَين شائكَين» تقول إن الحكومة العراقية ستواجههما: يتعلّق الأوّل في ما إذا كان التفويض المعدّل لـ«التحالف» سيمكّن القوات العراقية من احتواء تنظيم «داعش»، وغيره، إذا استعاد نشاطه، كما يجري حالياً في أفغانستان، حيث يواجه مقاتلو حركة «طالبان» تمرُّداً متجدّداً ضدّهم؛ فيما يتمحور الثاني حول كيفيّة معالجة الحكومة العراقية للضغوط المحلية على الولايات المتحدة لسحب جميع قواتها المتبقية، والذي يعبَّر عنه بأقوى الأشكال في أوساط فصائل «الحشد الشعبي»، منذ إقدام واشنطن، بداية عام 2020، على اغتيال القائدَين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.