جنين | تنطوي التطوّرات المتسارعة الأخيرة التي شهدتها الضفة الغربية المحتلة، على أكثر من دلالة مرتبطة بمديات الفعل المقاوِم وأهدافه. وعلى رغم أنها أظهرت قصوراً في البنية العسكرية التابعة للمقاومة هناك، وهو ما يُعدّ طبيعياً بالنظر إلى فُتوّة هذه البنية، إلّا أنها أنبأت بوجود عمل جادّ وحقيقي على تحويل مدن الضفة وبلداتها إلى ساحة اشتباك دائم وفعّال. وإذ يهدف هذا العمل، في جزء منه، إلى استثمار نتائجه في المفاوضات الجارية بشأن قطاع غزة - الذي يمثّل الساحة المتقدّمة والأكثر فاعلية للمقاومة - فهو، في الصورة الأعمّ، يرمي إلى تثبيت ربط الساحات الفلسطينية بعضها ببعض، وتحقيق نظرية التخادم في ما بينها عند الحاجة
أثبتت أحداث الأسابيع الأخيرة في الضفة الغربية المحتلّة أن لفصائل المقاومة عموماً، ولحركة «حماس» خصوصاً، بنية تحتية عسكرية نظامية هناك، مركز قيادتها هو مخيم جنين، ذو التاريخ الطويل في الكفاح المسلّح ضدّ العدو الإسرائيلي، والذي شهد واحدة من أبرز المعارك الملحمية، خلال عملية «السور الواقي» التي أمر بشنّها رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك آرئيل شارون، لاجتياح مدن الضفة وبلداتها أواخر آذار 2002. وإذ يبدو واضحاً أن تلك البنية لا تزال فتيّة، بالنظر إلى أن معظم المنضوين فيها هم من فئة الشباب الذين لا خبرة عسكرية وأمنية سابقة لديهم، وفي الغالب تلقّوا تدريبات محلية محدودة، فإن هذا لا ينفي وجود ناشطين قُدامى ممّن لهم تاريخ في العمل المقاوم، ومنهم الشهيد أحمد زهران، الذي استشهد مع رفيقَيه محمود حميدان وزكريا بدوان، قبل حوالى عشرة أيام، بعد محاصرتهم من قِبَل قوات العدو في قرية بيت عنان شمال غرب القدس المحتلة. كذلك، توحي سرعة التحرّكات الإسرائيلية وعدم القدرة على منعها أو تضليلها، بأن المنظومة الأمنية المقاوِمة في الضفة ليست ناضجة بعد، وهو ما مكّن الاحتلال من استغلال ثغراتها لاستهداف العشرات من المقاوِمين، الذين تقول تل أبيب إنهم يشكّلون مفاصل أساسية في الهيكلية العسكرية التابعة للفصائل، وبقتلهم أو اعتقالهم يمكن تفكيك هذه الهيكلية وإضعافها إلى حدّ بعيد.
على أن الأداء الإسرائيلي الميداني في الضفة لم يكن «نظيفاً» تماماً، بل رافقته انتقادات واسعة، سواءً في الإعلام أو حتى داخل المؤسّسات والأجهزة. ففي أعقاب اقتحام بلدة برقين في الـ26 من أيلول الماضي، أشارت وسائل إعلام عبرية إلى «وجود انتقادات داخل وحدة دوفدفان الخاصة (المستعربين) في الجيش الإسرائيلي، بعد كمين برقين الذي أدى إلى إصابة قائد سرية في الوحدة بالإضافة إلى أحد عناصرها». وعبْر حسابه على «تويتر»، كتب المراسل العسكري لموقع «واللا» العبري أمير بوخبوط، أن «على قائد وحدة دوفدفان أن يستمع إلى الانتقادات الداخلية بخصوص التحقيق»، الذي أُعلن بدؤه إثر الكمين المذكور. وفي السياق ذاته، حذّرت صحيفة «هآرتس» من أن «تزايد التوترات الأمنية شمال الضفة الغربية يمكن أن يؤدي إلى زيادة العمليات الفردية»، مضيفة أن «هذا ما قالته مصادر في مؤسّسة الأمن». ووفق تقديرات المؤسّسة الأمنية التي أوردتها الصحيفة، فإن «تراجع مكانة السلطة الفلسطينية بين سكّان الضفة الغربية في العامَين الماضيَين، جعل من الصعب على قوات الأمن الفلسطينية العمل في مناطق مثل منطقتَي جنين والخليل»، وهو ما أدّى إلى «نشوء مجموعات مسلّحة».
تسعى المقاومة إلى تكريس وتثبيت حالة ربط الساحات الفلسطينية بعضها ببعض

ومن هنا، يَبرز الرأي الإسرائيلي القائل بضرورة إعادة تقوية السلطة، في سبيل ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة، حيث لا تستطيع قوات العدو العمل بالوتيرة نفسها التي أظهرتها في الأيام الفائتة، على مدار السنة، بينما يمكن لأجهزة الأمن الفلسطينية أن تغطّي جزءاً كبيراً من هذا النشاط.
بدوره، لفت الكاتب الإسرئيلي، تال ليف رام، في صحيفة «معاريف»، إلى أن «بنية تحتية مثل تلك التي تمّ إحباطها في الضفة، هي أمرٌ غير معتاد للغاية»، معتبراً أن «كشفها يوضح أهمية استمرار حرية عمل الجيش الإسرائيلي في مدن الضفة، إلى جانب التنسيق الأمني ​​مع قوات الأمن الفلسطينية، والذي له أيضاً قيمة مهمّة في الحفاظ على الاستقرار على الأرض». ورأى الكاتب أن «التفوّق الاستخباري للمؤسّسة الأمنية في مواجهة العنف الفلسطيني لن يوفّر أبداً غطاءً كاملاً من الأمن، خاصة مع فرضية أن حماس بدهائها ستستمرّ في استثمار الكثير من الجهود من غزة، وستُواصل جهودها لتقوية الذراع العسكري في الضفة الغربية»، منبّهاً، في الوقت نفسه، إلى أنه «من المبكر جداً في هذه المرحلة اعتبار البنية التحتية المُكتشَفة أخيراً، علامة على نجاح حماس في استعادة قدراتها العملياتية في الضفة الغربية (...) ستشير الأشهر المقبلة فقط إلى ما إذا كان هذا حدثاً استثنائياً، أو له اتجاه أوسع».

الاستثمار في الضفة
لا تنكر حركة «حماس» علاقتها المباشِرة بالمقاومين في الضفة الغربية، على رغم تنوّعهم وتوزّعهم على فصائل أخرى كـ«الجهاد الإسلامي». إذ تُحاول الحركة استثمار الأسباب الموضوعية المتأصّلة للتصعيد هناك، من أجل تعزيز حالة الاشتباك مع العدو وإدامتها. لكن فضلاً عن القاعدة الاستراتيجية العامة المتمثّلة في تفعيل المقاومة حيث أمكن، يبدو أن لهذا التوجّه هدفَين أساسيَن آخرَين، أحدهما تكتيكي والآخر استراتيجي. يتمثّل الأوّل في استخدام التصعيد في الضفة كأداة ضغط على العدو في مستويات التفاوض المختلفة، سواءً في ما يتعلّق بملفّات قطاع غزة (من المعابر إلى إعادة الإعمار)، أو ربطاً بصفقة تبادل الأسرى، وهو ما يفسّر تصاعد حالة الاشتباك في جنين وغيرها من المناطق خلال الأسابيع الثلاثة الفائتة، بالتزامن مع تقدّم المفاوضات المرتبطة بغزة. ولئن كانت المقاومة في القطاع اضطرّت، لمقتضيات التفاوض التي وضعها الوسيط المصري، تثبيت نوع من الهدوء على حدود غزة، وإن شابته خروقات بسقوف محدودة، فهي تنبّهت إلى أن الهدوء المستديم سيسلب المقاومة القدرة على تحسين موقفها التفاوضي، ومن هنا كانت حاجتها إلى توفير البديل، الذي لم يكن إلّا الضفة كمساحة صالحة للعمل، تتوافر فيها الأسباب والدوافع وإمكانية التحرّك، ولا تحتاج سوى إلى قليل من التحفيز والمساعدة اللوجيستية.
أمّا الهدف الثاني، الاستراتيجي، فهو تكريس وتثبيت حالة ربط الساحات الفلسطينية بعضها ببعض، وتحقيق نظرية التخادم في ما بينها عند الحاجة، بحيث أن الضفة تقاتل عن غزة عندما يهدأ القطاع لأيّ سبب كان، وغزة تقاتل عن الضفة عندما تهدأ الأخيرة، وكلتاهما تقاتلان سوياً في حالات التصعيد الكبرى، كما في «سيف القدس» مثلاً. كذلك، تجد المقاومة في التصعيد في الضفة وسيلة للردّ على مخططّ متنوّع المصادر، يهدف إلى «تبهيت نتائج معركة سيف القدس»، بحسب تعبير نائب رئيس «حماس» في الخارج، موسى أبو مرزوق. ويبيّن مرزوق، في تصريحات إعلامية، أن هذا «المخطّط يشمل تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وحِرمان ‏شعبنا من صورة النصر التي صنعها، وردع المقاومة عن التصدّي لأيّ ‏عدوان إسرائيلي محتمل في القدس وبقية فلسطين»، مؤكداً أن «حركة حماس قرّرت ألّا يبقى الحال على ما هو عليه، وسنبذل ما بوسعنا ‏لكسر مثلّث الحصار المفروض علينا». وبالتصعيد المدروس في الضفة، يتحقّق للمقاومة هدف الضغط على الاحتلال في مواضع تؤلمه وتجعله تحت ضغط شديد، إلى جانب توسيع شعبيّة خيار الكفاح المسلّح، وتثبيت صورة السلطة وأجهزتها الأمنية كمتعاونة مع العدو لضرب أيّ عمل مقاوم. وإذا ما صحّت الرواية الإسرائيلية، حول أن مجموعة مقاومي «حماس» التي استهدفها أخيراً في الضفة، كانت تجهّز لعمليات داخل الخطّ الأخضر، فإن المقاومة بذلك تكون قد اتّخذت قراراً بضرب الاحتلال في العمق، والانتقال إلى مرحلة الهجوم بدل التحصّن والتواري ومحاولة الدفاع.