على رغم عدم توفّر أدلّة حسّية - حتى الآن - حول طبيعة الدور الذي أدّته أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في عملية ملاحقة الأسرى الستّة المتحرّرين من سجن جلبوع الشهر الماضي والقبض عليهم، إلّا أن المعلومات الآتية من مصادر داخل السلطة، والتي كانت نشرت «الأخبار» جزءاً منها في العاشر من أيلول الماضي (راجع: قلق متصاعد من انفجار الضفة | رام الله لتل أبيب: معكم في تعقّب الأسرى)، تفيد بأن رام الله لم تتأخّر في الموافقة على طلب تل أبيب التعاون معها في تعقّب الأسرى، شرط ألّا تتمّ تصفية هؤلاء، وأن يُكتفى باعتقالهم، بالإضافة إلى تهدئة الأوضاع في السجون. وبالتوازي مع ذلك، تواتَرت التقارير الإعلامية الإسرائيلية التي تتحدّث عن دور «مساعد» تقوم به الأجهزة الفلسطينية في توفير معلومات حول مواقع المتحرّرين، خصوصاً بعدما ثَبُت لأجهزة أمن العدو أن الأسيرَين مناضل نفيعات وأيهم كممجي قد تمكّنا من عبور الجدار الفاصل والدخول إلى الضفة الغربية المحتلّة، حيث تفرض أجهزة السلطة قبضة استخباراتيّة حديدية، وتتمتّع بسهولة التحرّك على عكس أجهزة العدو. وفي الاتجاه نفسه، أفادت تقارير أمنية بأن الأمن الفلسطيني «وجّه عملاءه وعيونه في الضفة عموماً، وفي مدينة جنين ومخيّمها على وجه خاص، للتنبّه إلى أيّ تحرّكات مشبوهة أمنياً، وطلب إليهم إبلاغ رؤسائهم عن أيّ معلومات تتوافر لديهم حول الأسرى».وإذا كانت مفهومةً محاولة السلطة التستّر على مشاركتها في تعقّب الأسرى الستّة، وردّة فعلها النزقة عقب نشر «الأخبار» المعلومات المُشار إليها أعلاه خصوصاً، فالواقع يقول إنه لم يكن بمقدورها الوقوف مكتوفة الأيدي حيال حدث جلبوع؛ إذ إن العلاقة «الجيّدة جداً» بين أجهزتها وأجهزة الأمن الإسرائيلية إنّما بُنيت لمثل هذه الأيام والأحداث، وكذلك لإدراكها أن استطالة التفاعل الشعبي مع قضية الأسرى المتحَرّرين في الضفة الغربية، حيث الثقل الأساسي لحركة «فتح» والنفوذ الأوسع للسلطة، سيتردّ سلباً على الأخيرة، وستقطف ثماره فصائل المقاومة التي توسّعت دائرة تأييدها في الأراضي المحتلّة عقب معركة «سيف القدس». ولا يشكّل أداء السلطة، إزاء حدث جلبوع، استثناءً من تاريخها الطويل في «التنسيق الأمني»، والذي أدّى - إلى حدّ بعيد - إلى ضرب حاضنة المقاومة في مناطق سيطرتها، عبر بثّ الرعب في نفس كلّ فلسطيني يريد مساعدة المقاومة، من أن يكون جاره أو قريبه أو أيّ شخص آخر مُخبراً لدى الأجهزة الفلسطينية، وأن يقوم بإخبار مشغّليه عنه، ليكون عليه انتظار جنود العدو أمام باب بيته بعد وقت قصير.
يُراد من مصطلح «التنسيق الأمني» تلطيف الدور الوظيفي الموكَل إلى السلطة


والواقع أن مصطلح «التنسيق الأمني» إنّما يُراد منه تلطيف الدور الوظيفي الموكَل إلى السلطة، والمتمثّل في مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته، بأدوات فلسطينية، بما يتيح إضفاء طابع «محلّي» على الصراع، وإزاحة الاحتلال من الواجهة، لكن ذلك لم يَحُل دون تطوّر قدرات المقاومة وفعلها ضدّ العدو. والمفارقة أنه عندما يتمّ الحديث عن أن إسرائيل أطاحت عملياً بـ«اتفاقات أوسلو»، حتى على ألسنة مؤيّدي التسوية، دائماً ما يُستثنى «التنسيق الأمني»، الذي يمثّل جوهر العلاقة بين الطرفين، وفق تأكيد وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، الذي أوضح أن «90% من العلاقة مع السلطة يتعلّق بالتنسيق الأمني». وفي ضوء ذلك، يصبح مفهوماً أنه في ذروة الخلاف السياسي بين السلطة وقوى اليمين الحاكم في إسرائيل، والذي يصرّ على انتزاع المزيد من التنازلات الفلسطينية، كانت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تثني على الدور الذي تلعبه أجهزة أمن السلطة في حماية أمن إسرائيل ومستوطناتها في الضفة وجيشها المنتشر في أرجائها. وحتى عندما يصل الخلاف إلى حدّ التهديد بوقف «التنسيق»، لا تأخذ تل أبيب ذلك التهديد على محمل الجدّ، بل إنه في بعض المحطّات التي قيل فيها إن رام الله أوقفت «التنسيق»، كان يتمّ الإعلان توازياً عن إحباط عمليات تستهدف دوريات الاحتلال، فيما تورد تقارير إعلامية إسرائيلية أن مسؤولي السلطة اتّصلوا بنظرائهم الإسرائيليين كي يُطمِئنوهم إلى أن الإعلان المذكور «لا يعني منح الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات في الضفة».
بالنتيجة، ليس «التنسيق الأمني» إلّا قيام الطرف الفلسطيني بتزويد الجانب الإسرائيلي بمعلومات عن المقاومين، ومطاردتهم وإحباط عملياتهم، وهو ما لا يحتاج إلى أدلّة حسّية لإثباته، إذ إن الاتفاقات الثنائية حدّدت للسلطة وأجهزتها الأمنية وظائفها ومهامّها، التي أظهرت رام الله، منذ اللحظات الأولى، حرصاً شديداً على تطبيقها. مع ذلك، وفي أعقاب فشل «مؤتمر كامب ديفيد» في عام 2000، عمد الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى تغيير تكتيكه، فغَضّ النظر عن عمليات المقاومة، وأطلق سراح المقاومين، فيما انضمّت حركة «فتح»، بجناحها العسكري المتمثّل في «كتائب شهداء الأقصى»، إلى المقاومة، الأمر الذي أدّى إلى إطلاق موجة عمليات بوتيرة تصاعدية استمرّت سنوات ضمن سياق انتفاضة الأقصى. وبعد رحيل عرفات، انتقلت صلاحياته إلى محمود عباس الذي استعاد «التنسيق الأمني» مع أجهزة الاحتلال بأعلى درجاته، وقرنه بمواقف سياسية حادّة من المقاومة وخيارها، قبل أن تتولّى الولايات المتحدة بنفسها تعزيز أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة عمليات المقاومة، في ما استهدف تحويل هذا الأداء القمعي إلى «عقيدة وطنية» محورها حماية مصلحة السلطة وبقائها. لكن في مقابل نجاح هذه الخطة بنسبة كبيرة في الضفة الغربية، إلّا أنها تلقّت ضربة قاسية في قطاع غزة، بعد سيطرة حركة «حماس» على القطاع عام 2007.
أمّا في الوقت الحالي، فمن الصعب تجاوز مفاعيل معركة «سيف القدس» التي ساهمت في تقويض الخطاب السياسي للسلطة، وتحوّلت إلى عامل إضافي في إضعاف صورتها ومكانتها حتى في نظر جمهورها الذي كان يراهن عليها كمقدّمة لتحقيق مشروع سياسي، بينما بدأ يلمس أن بقاءها تحوّل إلى هدف بذاته، تُدفع من أجله الأثمان الخطيرة. والأخطر بالنسبة إلى كيان العدو، أن جولة «سيف القدس» التي تميّزت عن كلّ ما سبقها في توقيتها وسياقها ومثّلت نقطة تحوّل في معادلة الصراع، عزّزت آمال الفلسطينيين في تحقيق الانتصار النهائي، وهو ما يُخشى من مفاعليه في الضفة، ويستدعي بالتالي تعميق «التنسيق الأمني» أكثر من أيّ وقت مضى.