تونس | باغت الرئيس التونسي، قيس سعيد، مواطنيه بقراره تكليفَ امرأة ترؤّس الحكومة، في ما عُدَّ ضربةً جديدة تُضاف إلى قائمة الضربات التي يسدّدها في مرمى خصومه. الخطوة التي لاقت ترحيباً واسعاً من جانب مناصريه، سجّلت، في الموازاة، «إحراجاً جندريّاً» لمناوئيه الذين استعملوا جميعاً صيغة الاستدراك للتعبير عن موقفهم المرحّب باختيار امرأة لهذا المنصب، لكنهم عبّروا عن رفضهم لتعيينها في إطار ما يسمّونه «انقلاباً على الدستور».ولا شكّ في أن اختيار نجلاء بودن رمضان لتشكيل الحكومة يرضي فئات متنوعة؛ فهي أكاديمية تونسية آتية من الطبقة الوسطى، تدرّجت في دراستها عبر المدرسة والجامعة العمومية التي عادت إلى التدريس فيها لاحقاً، ثم التحقت بمناصب إدارية في وزارة التعليم العالي. وهي المقاييس ذاتها التي سبق أن توافرت لدى رئيس الحكومة السابق المقترَح من سعيد، هشام المشيشي، ولكن مع فارق هذه المرّة، متمثّل في أن الضمانة بأن لا تنقلب عليه الرئيسة المكلّفة كسلفها، مرتبطة أساساً بحدود صلاحياتها وتبعيّتها في قراراتها وتوجّهاتها إلى الرئيس.
حتى الآن، لا يزال سعيد يتفوّق على خصومه، إذ لم يمنعه الإرباك الحاصل عبر التكتلات الحزبية المناهضة له، والتظاهرات، والتحشيد ضدّه لاستثارة «المجتمع الدولي»، من تسديد نقطة جديدة، ورفع درجة الحماسة الشعبية والتأييد له من جانب فئات لم يتمكّن من استقطابها في السابق. هكذا، عاد سعيد ليستأثر بالنقاش العام بعدما التزم وطاقمه الاستشاري الصمت إثر صدور الأمر الرئاسي 117 في 22 أيلول الحالي، والذي أسند لنفسه بموجبه السلطات التشريعية والتنفيذية. ثم جاءت خطوة تعيين رئيسة للحكومة، لتحصد ترحيباً من جانب منظمات حقوق الإنسان والجمعيات النسوية، وإن ظلّ مشروطاً بمنح الرئيسة الجديدة صلاحيات مكتملة لا مبتورة تصبّ لفائدة الرئيس. ويدور الحديث حول منْح سعيد منصب رئيس الحكومة، لامرأة، للمرّة الأولى في تاريخ البلاد التي كثيراً ما تُقدَّم على أنها مناصِرة لحقوق المرأة وضامنة لها، باستثناء حقّها في نيْل مناصب تقريرية عليا. وهو بذلك يخلق لنفسه مكانةً وسط الزعماء المناصرين للمرأة، ليخلّد نفسه في سيرة طالما اختُزلت في «البورقيبية» التي دعمت النساء، وأتاحت لهنّ المجال لاقتسام الفضاء العام مع الرجال. فبعدما عيّن على رأس ديوانه نادية عكاشة، ثم ثريا الجريبي كأوّل وزيرة للعدل وصاحبة حقيبة سيادية في تاريخ البلاد، ها هو سعيد يعيد الكرة بتعيينه نجلاء بودن رمضان رئيسة للحكومة. وتتعدّى المسألة مجرّد استرضاء المنظمات النسوية والانتشاء بموجة المديح الموقّتة التي قد يعصف بها المزاج الشعبي المتقلّب، إلى إيجاد الرئيس التونسي فسحةً لاسمه بين كوكبة التقدميّين المحدّثين ممَّن تولّوا قيادة البلاد، وهو المولّع بالتاريخ والتأريخ. سيستثمر سعيد أيضاً «التآمر الذكوري» على رئيسة حكومته، ليجعل الرافضين لمساره في مظهر «الميزوجينيين» العاملين على إفشال أوّل رئيسة للحكومة إن نجحت، وسيجني أيضاً الفوائد الاعتبارية لتأييد رئيسة الحكومة على أساس النوع الاجتماعي وعلى أساس كفاءتها. ولعلّ ما يجعل الاختيار يستدعي التوقّف عنده، الملّف الذي كانت نجلاء بودن تشرف عليه خلال عملها في وزارة التعليم العالي، فهي مكلّفة بالتعاون مع «البنك الدولي» وميسّرة لبرامج «المنظمة الدولية للعلوم والتربية والثقافة»، ما يجعلها اسماً ذا مقبولية لدى المنظمات المانحة، ويخفّف من حدّة الانتقادات الموجّهة إليه من جانب هؤلاء الأطراف.
دعت حركة «النهضة» إلى عودة البرلمان للانعقاد واتّخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة ما تسميه «انقلاباً»


أما البرامج التي ستعمل رئيسة الحكومة على تنفيذها بعد تشكيل فريقها الوزاري، الذي بدا جليّاً من كلمات سابقة لسعيد أنه تم اختياره مسبقاً، فهي «مكافحة الفساد بلا هوادة»، على حدّ تعبير الرئيس، ثم الاستجابة إلى مطالب التونسيين المتعلّقة بحقّهم في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. ويسعى سعيد إلى «اختصار مسافات التاريخ» وتحقيق إنجازات في مجال الخدمات الأساسية ستكون صعبة للغاية في ظلّ تردّي وضع المرافق العمومية، وافتقار الموازنة العامة للموارد المالية اللازمة لإعادة تهيئتها والاستثمار فيها.
وإثر الإعلان عن تسمية رئيسة الحكومة المكلّفة، دعت حركة «النهضة» إلى عودة البرلمان للانعقاد واتّخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة ما تسميه «انقلاباً». ووجّهت، في بيان صادر عن رئيس كتلتها البرلمانية عماد الخميري، نداءً للقوى التونسية الحيّة من أحزاب ومنظمات للوقوف صفاً واحداً في وجه سعيد. وعلى رغم وعي قياداتها بأن الطيف السياسي في مجمله، باستثناء حلفائها الحكوميين السابقين، قرّر استثناءها من التنسيق والمشاورات حتى لا يتحمّل الكلفة الانتخابية للتحالف معها، فإن «النهضة» تكرّر النداء تلوَ الآخر للتحشيد والمواجهة مع سعيد، حتى إن استدعى الأمر النزول إلى الشارع. وترفض الحركة، وفق ما يكشفه موقفها الأخير، تعيين رئيسة الحكومة ومباشرتها لمهامّها استناداً إلى الأمر الرئاسي الصادر في 22 أيلول. أمّا بقية الأحزاب السياسية، فإن فئة منها عبّرت عن أملها في أن يتدارك سعيد الأمر بالعودة إلى الدستور، وأن تمارس رئيسة الحكومة عملها في مناخ دستوري وقانوني سليم، فيما آثرت أخرى الصمت تماماً حتى تتضح مواقف الساحة السياسية.
من جهته، تلقّى «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي ينتظر تشكيل الحكومة حتى يستأنف المفاوضات الاجتماعية حول زيادة الأجور المعطّلة منذ أشهر بعدما رُفضت جميع المبادرات التي قدّمها بعد 25 تموز الماضي، بارتياح، اختيار امرأة لترؤّس الحكومة، وفق ما ورد على لسان أمينه العام المساعد المكلّف بشؤون المرأة والدراسات، سمير الشفي، ولكنه أرجأ إصدار موقفه النهائي إلى حين انعقاد اجتماع مكتبه التنفيذي في الساعات المقبلة لتدارس الملفّ. وبدا لافتاً للانتباه، أن مواقف «منظّمة الشغيلة» التي قدّمت عدّة مبادرات تتمحور جلُّها حول فكرة الحوار الوطني والتفاوض مع جميع الأطياف باستثناء تلك التي ثبت تورّطها في العبث بالدولة، اتّسمت بالبراغماتية والتفاعل مع الوضع القائم والبناء على الوقائع الجديدة منذ إجراءات سعيد الاستثنائية في 25 تموز الماضي.