دمشق القصيدة كلها لولا حسرة الخيم. دمشق تنطق العربية في شجرها ونسيمها ومائها. هذي المدينة تخلق في يديك كل لحظة قلماً، كأنه السلاح، فتوزع شعرك ونثرك في حبها، وفي حبها لحبك الأثير فلسطين. فجأة في مخيم اليرموك، وأنت جالس على سطح «المركز الفلسطيني للثقافة والفنون»، يطلب منك غسان صورة جواز السفر. وببارقة حدس عرفت أنك ذاهب إلى فلسطين. ولكنك تسأل: إلى أين؟ يجيبك بفرحة كنت تشاهدها حين يغني للوطن والحب. إلى البلاد.
تغرب الأيام وتمرّ الشهور وأنت تديم السؤال: متى؟ يتأجل الموعد شهراً. فثمة إجراءات للعائد من مانعي العودة. ثمة اضطراب. قد نذهب، وقد...

الثانية عشرة ليلاً أطلت من صوته نجوم ورقص القمر. نلتقي عند السادسة صباحاً لنذهب. ها قد أجابك أخيراً: اليوم نذهب عائدين إلى الديار. إلى البلاد. إلى فلسطين. لممت كل شتاتك وشتات المخيمات وانطلقت إلى موعدك المنتظر، حالماً بالكثير وخائفاً من انكسار أحلامك وخيالاتك الكثيرة عن الوطن. فكرة تحياها وتسكن إليها عن أهلك هناك: هل ما زالوا يذكرونك كما تذكرهم؟ فالسياسة لا تحب سوى العقل وتحلل وفق علم «الاجتماع السياسي» وتنسى بقصد أو دون قصد وجدان «الاجتماع الإنساني». مخاوفك ازدادت وأنت تواجه الحدود الأردنية الأولى بانتظار دام طويلاً.
خرجت من الحدود مع من أنت معهم ودخلت الأردن عابراً نحو جسر «الملك حسين»، ماراً من منطقة الكرامة حيث حصلت الموقعة الحاضرة في ذاكرة كل العرب إبان نكسة حزيران. يزداد الضغط النفسي. اختلطت عليك المشاعر حتى لم تعد تعرف من أنت الآن. ولو بادرك أحد بالسؤال عن حالك في تلك اللحظة. لتلكأت بالإجابة.
وصلت المعبر وأصبح الوطن على بعد 5 كيلو مترات فقط. الآن ترى أريحا مدينة التاريخ والحضارة. ترى أفق فلسطين. أصبحت تتنشق الهواء كمن يغبّ من سيجارة طال انتظارها. كل نفس تأخذه غداً سيجارة تدخنها على استعجال الحنين. صرت تريد تدوير عقارب الساعات كلها في العالم. صرت تريد أن تمسك الشمس لتأخذها نحو الغياب، كي يمر الوقت أسرع.
تتسلم التصريح الذي ستمر به من النقطة الإسرائيلية إلى بلادك. تفرح. لكن دمعة حسن، اللاجئ من لبنان، وحسن اللاجئ من سوريا. تغتالك. ليس لهما تصريح! لا تعرف ماذا عليك أن تقول؟ كيف تتضامن معهما؟ لا تعرف. حتى في الفرح ستغتال فرحة البعض. تصل إلى النقطة الإسرائيلية وتمنع من حمل حقائبك لتتقدم مجموعة من الشبان يرتدون اللون البرتقالي، وترتديهم سحنة تشبهك. تعرف أنهم فلسطينيون مثلك.
تقف في الطابور الأول: خلفك غسان صاحب البشارة. تعلق بضجر «طلعت إسرائيل جد، مش مزحة!».
تجتاز وجودهم واحداً واحداً. ذاكرة ذاكرة. طلقة طلقة. تقف مقابلهم وهم يسألونك عما أتى بك إلى «إسرائيلهم». لأول مرة تعرف معنى «الأنا والآخر» بهذه الحدة المثيرة للسخرية. ها أنت وها هو. وقد يكون هذا الواقف أمامك هو الساكن بيتك في «بلد الشيخ» في حيفا. وربما إن سألته من أين أنت لأجابك أنا من حيفا من «تل حنان»، بلد الشيخ ذاتها. ولكنك أنت من هناك وهو ليس منك. وتعرف تاريخك وهو يعرف تاريخه أيضاً. قد تكونان متشابهين بكل شيء إلا بأمر واحد: الفارق الكبير والنهائي والذي لا حل له. فالأرض تعرف أولادها ولا تخطئ رائحتهم. وليمونة الدار تربطها علاقة سرية بزيتونة الدار. فيد جدي شاهدة على الشجرتين حين كانتا غرستين.
«الأنا والآخر». هو قاتلي وأنا قاتله. كل منا قاتل للآخر على طريقته. هو بسلاحه ودمويته التي يتعلمها من مدرسة الحقد الصهيونية. وأنا قاتله حين يرى وجه أي شاب أو طفل عند الحدود يضج بفلسطينيته، فيصيبه في مقتل من وجوده. مررت، وكان الوقت داخلاً على الليل ولا يزال المارون في انتظار البقية.
«مررت» يعني عبرت. يعني أني دخلت فلسطين. وأول ما دخلت بدأت أبحث عن قمر بلادي لأرى هل هو أحلى كما يقال؟ بلى. كل شيء في بلادي أحلى، حتى الحنظل.
دخلت أريحا ناسياً كل ماضيك ما قبل هذي اللحظة. ها هنا يبدأ تاريخك. فليتوقف الزمن في فلسطين. أنت الآن أنت. تكتمل لأول مرة بك أبعاد الوجود الثلاثة. المكان والزمان وأنت. لأول مرة في حياتك لست لاجئاً. لأول مرة في حياتك يصبح المخيم غربتك الأصيلة ووطنك المؤقت تلغيه حقيقة وطنك. أنت الآن أنت.
تتجاوز الانتظار والكفاح والوقت يصير رائحة تنشقها ببضع غيمات عالقات على صدر السماء كأسطورة خلق جديد. تبتسم لك المدينة والهواء عامداً يزاول فنه بإغرائك بالركض خلفه نحو وردة تبتسم في زاوية ما من فلسطين. تركض خلف كل شيء هناك لتصل إلى كل شيء. تتفتح ذاكرتك على ما قرأت لشعراء فلسطينيين لتتبع روحك في المكان أين زهر اللوز وكيف حال المريمية؟ يأخذك شاعر هنا وآخر هناك. وأصواتهم تعلو في عينيك باحثة عن دهشة الروح.
أيام كنتها هناك. وهاتيك تأتي مثلها أيام.