«ما خلقنا تنعيش بذلّ، خلقنا نعيش بحرية!» هكذا كان الناس يرددون يومها. المشروع الذي بدأ صغيراً للغاية، يوم العودة لا يوم النكبة، وقبل عامٍ كاملٍ تقريباً (أي بدايات 2010) وصولاً إلى يوم المسيرة في 15/5/2011؛ أربعة شبابٍ عبر كل الوطن العربي وأقطاره، التقوا ليؤكدوا أنهم لا يريدون أن يبقوا بعيداً عن فلسطين. وقبل دخول التنظيمات والأحزاب وما عداهم على المشروع وتحويله إلى «بازارٍ» سياسي وانتخابي وعداه، كان الأمر لا يعدو كونه حلماً بالنسبة إلينا. كنا نعتقد أنّنا نستطيع أن نقرّب الناس إلى فلسطين؛ وقبل كل تفاصيل ما عرف بالربيع العربي، كنا نمهّد لربيعنا الفلسطيني، الذي ربما كان يحتاجُ وقتاً أطول بعد.
كنت واحداً ممن عملوا على الفكرة ككل، وكان الحلم أن نأخذ فلسطينيي المخيمات وجميع مؤيدي العودة الفلسطينية من جميع الجنسيات والأقطار من بلاد ما يسمى الطوق العربي (أي التي تحيط بفلسطين إحاطة مباشرة: سوريا، الأردن، لبنان، مصر) إلى أقرب مكان إلى فلسطين، وإحداث نوع من التحرك على تلك الحدود. كانت خطوتنا بسيطة كما أحلامنا، ببساطة هو أن نذكّر الناس «بنا»، بحقوقنا، بما نريده: بأننا ببساطة هنا، ونريد أن نعود، لا لاجئين كما يتسلون بتسميتنا!
يومها كنا بالتأكيد عائدين، وأثبتنا ذلك بدمائنا. لن أطيل في شرح الخطوات التي أوصلتنا إلى الحدود، لن أتحدث عن عنتريات الكثيرين، لن أتحدث عن العراقيل والصعوبات، لن أتحدث عن إصرار البعض على إفشال كل المشروع لمجرد أنهم لم يضعوا اسمه في مقدمة الحضور، كل هذا كان يحدث، ولكن ما كان مهماً بالنسبة إلينا هو أن نصل بالناس إلى ذلك المكان، قرب السياج الشائك لفلسطين، قرب فلسطين، قرب ذلك التراب المقدس. ففلسطين، بالنسبة إلى العائدين، تختلف عن فلسطين بالنسبة إلى أي أحد: أولاً هي ليست وطناً من ترابٍ وهواء وماء، إنها شيءٌ آخر، خيالي، وهمي، خلبي، يشبه الجنة. أهلنا يحكون عنها باستمرار، كبار السنّ في المخيم يغازلونها، أطفالنا يعرفونها قبل أسمائهم. باختصار، فلسطين بالنسبة إلى العائدين هي كل شيء، كل شيء.

لم يحتمل فتيتنا
مشهد فلسطين القريبة البعيدة إلى
هذا الحد

قبل الصعود إلى الحافلات، يجب الإشارة إلى النقطة الأهم: لم يكن هناك في الحدث مشاركون، لقد كانت المخيمات بأمها وأبيها هناك، الجميع، وأقول الجميع بصيغة الواثق، لأني كنت أعرف عدد الحافلات، وعدد من صعدوا إليها، وبالأرقام. بالتالي كانت المخيمات بأمها وأبيها ذاهبةً إلى فلسطين. كيف يمكن شعباً بهذه الشجاعة، وهذا العزم والإصرار، أن يوسم بالجبن؟ كيف يمكن أن يوصف شباب كهؤلاء باللاجئين؟ الجو كان عاصفاً لجهة المشاعر. أتذكّر الطفل ذا العشر سنوات الذي لم يقبل والده أن يذهب معنا – بحجة لم أعرفها – فظل يبكي ويستعطف، واعتقدنا أنه يريد الذهاب، معتبراً أن الموضوع رحلة، لكن الفتى فاجأنا: «بدي أروح على فلسطين، شو هدول أحسن مني؟»، في إشارة إلى صبية في عمره ركبوا الحافلات.
سارت الحافلات على ما يقدر الله، وقلوبنا معها، الأناشيد، الزغاريد، الأغاني، الأهازيج، لم يكن هناك تنظيمات، أحزاب، فصائل على الرغم من محاولاتهم الدؤوبة للتقسيم. هنا كان المخيّم كما هو على حقيقته: فلسطين مصغّرة. غنّى الجميع حتى وصولنا. ولما وصلنا إلى هناك، كانت بداية المشكلة. الحافلات لا تستطيع الوصول إلى فوق، فالإعداد لم يتوقع – لربما – هذا العدد الهائل من الناس، ربما كانوا يتوقعون عشرة آلاف، عشرين ألفاً، لكن هذا الكم الهائل من العائدين فاق كل التوقعات. لمن لم يرَ ما حدث يومها، والعدد الذي حضر، لا يعرف شيئاً عن فلسطين ولا عن أبنائها. يومها ترك الجميع المخيمات وذهبوا إلى فلسطين. فجأةً عرفنا بأنّ علينا أن نسير باتجاه الحدود (باتجاه قرية مارون الراس اللبنانية تحديداً)، لم نكن نعرف – أو نهتم – بمعرفة المسافة التي علينا سيرها: كان الطريق عصياً، جبلياً، قاسياً. إحدى النساء المسنّات، كانت تسير في المقدمة، لتسألها إحدى الصحفيات الشابات المنهكات من الطريق: يا خالتي كيف متحملة؟ فتجيبها المرأة دون التقاط أنفاسها: يا خالتي أنا مشيتها لهاي الطريق أنا وحامل بابني مصطفى وإحنا طالعين من فلسطين، نفس هاي الطريق، هون هون بعرفهن لهيدول التلات (جمع تلة).
كان المشهد مهيباً بحق، فلسطينيون من كل مكان، يفترشون تلك الأرض الجبلية صاعدين باتجاه «الحلم». لحظة وصولنا: زفت إلينا أنباءٌ مختلفة: استشهد أول الشبان على السلك الشائك، لم يحتمل فتيتنا مشهد فلسطين القريبة البعيدة إلى هذا الحد، تعلّقوا بالسلك الشائك، ذلك الفارق بينهم وبين حلمهم. واستشهد آخر، حتى وصل العدد إلى عشرة شهداء، وأكثر من 130 جريحاً. كان هؤلاء الشهداء والجرحى من يدعوهم الجميع «لاجئين» في وسائل إعلامهم: أي هاربين. كان هؤلاء يومها أصدق تكذيبٍ لكل البيانات، التفاوضات، الجلسات، الخطابات، كانوا بشكلٍ مباشر الصرخة بوجه كل من يقول بأن الفلسطيني يريد التوطن في أي بلدٍ سوى فلسطين، الكلمة الفصل في من يقول بأن الفلسطيني جزءٌ من أي معركة داخلية. كان بكل دقة: الوجه الأصدق والأنصع لكل ما نعرفه عن فلسطين: الجنة التي سنعود إليها، إما على أقدامنا، أو فوق دروعنا!




في عام 1948 اجتاحت العصابات الصهيونية «البلماخ/ الهاغاناه/ الشتيرن» القرى الفلسطينية وبدأت بسلسلة من المذابح والمجازر أدت إلى تهجير عدد كبير من سكان إصبع الجليل الفلسطيني إلى الدولة الأقرب: لبنان. وجد هؤلاء النازحون أنفسهم غير قادرين على العودة إلى بلادهم، وما كان يُعَدّ يوماً أو يومين طال لسنين طوال. وأصبح هذا اليوم يعرف منذ ذلك الحين باسم «يوم النكبة»، وخصوصاً أن الكيان الصهيوني أعلنه يوماً «لنشوء الدولة» رسمياً.