تتكرّر الأحداث في تشابه غريب، فما بين الأمس واليوم حكاية مجد لا تتوقّف، وسيرة لا تطويها الذاكرة. ما بين الأمس واليوم، أحداثٌ وذكريات وأسرار لم تُكشف بعد، عن محطّات مهمّة في التاريخ الجهادي المميّز للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.إنّها ليلة السابع عشر من أيار 1987، التي شهدت واحدة من أعظم العمليات الأمنية المعقّدة، والتي شكّلت صفعة قوية لمنظومة الأمن الصهيوني. تمثّلت تلك العملية في نجاح ستة من أسرى "حركة الجهاد الإسلامي" في اجتياز كلّ الإجراءات الأمنية العالية التحصين التي أحاطت بسجن غزّة المركزي - "السرايا".
قبيل ذلك التاريخ بقليل، كان مؤسّس "حركة الجهاد الإسلامي"، الدكتور فتحي الشقاقي، قد كلّف المجاهد زياد النخالة بتشكيل أول جهاز عسكري للحركة، وكان وقتها النخالة مسؤول الحركة في غزة. وقد جاء قرار التكليف، بعدما تعرّض مجاهدو الحركة لسلسلة من الملاحقات والاعتقالات، من قبل الاحتلال الذي زجّ بهم في السجون.
كان مؤسّس الحركة يسعى لتحشيد الجماهير خلف خيار الجهاد والمقاومة، وكانت فلسفته تستند إلى العمل المقاوِم، كسبيل لرفع المعنويات لدى الشباب، ليقود الجماهير نحو الثورة الشعبية في مواجهة الاحتلال.
بدأ النخالة بالعمل على تشكيل جهاز عسكري للحركة وإدارة العمليات الفدائية، في الوقت الذي وقع فيه حدثٌ كبيرٌ تمثّل في نجاح ستّة من أسرى الحركة في السجون، بقيادة مصباح الصوري، في اجتياز تحصينات سجن غزّة وتحرير أنفسهم.
شكّل هذا الحدث تحدّياً كبيراً أمام ما يقوم به النخالة من بناء جهاز عسكري للحركة، وهنا برز مرة أخرى كقائد يجيد التعامل مع كلّ الظروف، إذ شكّل على الفور خلية لإدارة تأمين المجموعة التي كسرت القيد، معتمداً في ذلك على مجاهد صلب وعنيد، هو عبد الله السبع، الذي قام بتوفير مخبأ آمن للمجاهدين في أحد الحقول الزراعية، وبدأ بتنسيق إيصال كلّ وسائل الدعم إليهم وتأمين مستلزماتهم ومتابعة أوضاعهم.
لم تكن إدارة تلك الفترة بالأمر الهيّن ولا اليسير، ولكنّ الجهود المخلصة والأمينة، والمتابعة والخبرة الأمنيّتين في التعامل مع الأزمات، بدت كفيلة بأن تحقّق نتائج عظيمة وفارقة في مسيرة الشعب الفلسطيني. كانت، بالفعل، فترة عصيبة وتحدّيات كبيرة، تمثّلت في توسيع العدو ملاحقته لكلّ تحرّكات المجاهدين من أبناء "حركة الجهاد الإسلامي"، إضافة إلى اعتقالات عشوائية واحترازية، وإجراءات بالغة التعقيد اتُّخذت لمحاصرة مجموعة الصوري ورفاقه، وقطع كلّ سبل الإسناد والدعم لهم.
سعى مؤسّس «الجهاد الإسلامي» إلى تحشيد الجماهير خلف خيار المقاومة


الخطّة التي عمل عليها الصوري، وفق التوجيهات، حدّدت أساساً مهمّاً للحماية، وهو الهجوم، وبالتالي كان العمل الفدائي هو الوسيلة الناجعة لتحقيق الأهداف المرجوّة. وفي واقع الأمر، كانت هذه رغبة المجاهدين جميعاً بأن يواجهوا ولا يستسلموا، وأن يبقوا داخل أرض المعركة، وبالتالي حدث ما يشبه تبادل الأدوار وتوزيع المهامّ. وقد تحقّق، في نهاية المطاف، ما رسمته قيادة الحركة، وعلى رأسها المؤسّس الدكتور فتحي الشقاقي، الذي سعى جاهداً إلى أن ينقل المعركة والمواجهة من خارج حدود الوطن إلى داخله، وأن تحمل الجماهير كلّها مسؤولية التحرير من خلال الثورة.
ربّما تتشابه ظروف الأوضاع الداخلية الراهنة، وانشغال الناس بهموم العيش وقسوة الحياة، مع ظروف الثمانينيات. كذلك، فإن الحالة الفلسطينية الداخلية، اليوم، في أمسّ الحاجة إلى من يقرع الجرس ويعيدها إلى الطريق، وإلى أصل الحكاية، مزيلاً الغشاوة التي علقت بالأبصار، لترى حقيقة تغوُّل العدو في كلّ تفاصيل الحياة، من أجل تسميمها وكيّ وعينا الجمعي، والنفاذ من ثغرات الانقسام والتشظّي الذي أصابنا منذ "اتفاق أوسلو" المشؤوم، وقبولنا بسُلطة تحت بساطير الاحتلال. هذا دور "الجهاد الإسلامي"، ودور قيادتها، وهذا أمينها العام، منذ تكليفه الأول وحتى هذا اليوم، يسير على الطريق نفسه بوعيه وتراكم خبراته السياسية والميدانية والتنظيمية.
اليوم، تأتي عملية انتزاع الحرية، التي كسر خلالها ستة أسرى القيود، وحطّموا منظومة أمن العدو في سجن جلبوع، لتزرع أملاً جديداً وتعيدنا إلى سيرة الجهاد الأولى، وإمكانية تكرار الأحداث التي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة / الثورة (كما كان يسمّيها المؤسّس الشقاقي). ومعرفتي بقيادة "الجهاد الإسلامي"، وأمينها العام، هي أن لديه من الإصرار والفدائية وتحمّل المسؤولية، ما يجعل كلّ شيء متاحاً لاتخاذ القرار المناسب، تماماً كما كان القرار جاهزاً والظروف مؤاتية، في عام 1987.

* رئيس تحرير صحيفة "الاستقلال" الفلسطينية