لم يُرد رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم، أن يصف الانتخابات المزمع إجراؤها في بلاده في الثاني من تشرين الأول المقبل، بأنها تجربة ديمقراطية، مفضّلاً اعتبارها مشاركة شعبية، وهو تعبير بدأت تظهر صحّته، مع نشر لوائح قيد المرشّحين. إذ يدرك ابن جاسم، أكثر من أيّ أحد آخر، أن الدولة الخليجية لا تستطيع، حتى إذا أرادت، إجراء تجربة ديمقراطية حقيقية، لأسباب كثيرة، داخلية وخارجية، متّصلة بالنسيج الاجتماعي الملوّن الذي لا يخلو من إشكاليات، وبالثقافة الانتخابية المحدودة، وبالمؤثّرات الخارجية التي يمكن أن تأخذ العملية برمّتها في اتجاه آخر غير المرسوم لها، في دولة صغيرة محاطة بدول كبيرة، مثل حال بلاده. وتستبطن الانتخابات القطرية الكثير من الكوابح، أهمّها أن الانتخاب يشمل 30 مقعداً تمثّل ثلثَي أعضاء مجلس الشورى، فيما يعيّن الأمير الأعضاء الـ15 الآخرين؛ وكذلك مسألة الجنسية، حيث يقسم قانون الانتخابات المواطنين القطريين إلى ثلاث فئات: الأولى تضمّ مَن يملكون الجنسية الأصلية، أي الذين نال أجدادهم الجنسية قبل عام 1932، ويحقّ لهم الترشّح والتصويت، والثانية تشمل المولودين في قطر ممّن كان أجدادهم قطريين وتجنّسوا بعد العام المذكور، وهؤلاء يحقّ لهم التصويت ولكن ليس الترشّح، بينما ثمّة فئة ثالثة هي المجنّسون، الذين لا يحق لهم لا الترشّح ولا التصويت. وبخلاف الاعتقاد السائد، لا تقتصر مشكلة الجنسية على قبيلة آل مرّة، التي نظّمت احتجاحات أخيراً على القانون الذي يضع الكثير من أفرادها في خانة مَن لا يحقّ لهم لا الترشّح ولا التصويت. لكنّ المشكلة في حالة هذه القبيلة تكتسي أبعاداً سياسية، لأن أجزاء منها اتّخذت موقفاً إلى جانب دول المقاطعة الخليجية - المصرية أثناء أزمة 2017، ما حدا بالسلطات القطرية إلى نزع جنسية شيخها، طالب بن لاهوم آل شريم، وعشرات آخرين من أبنائها بداعي امتلاكهم الجنسية السعودية (يمنع القانون القطري ازدواجية الجنسية). كما نُزعت، آنذاك، جنسية شيخ قبيلة بني هاجر، شافي بن ناصر بن حمود آل شافي، لكن بني هاجر يَبدون أكثر اندماجاً بالحياة القطرية، وهم يحتلّون نسبة كبيرة من الوظائف الحكومية.
في الكثير من الدوائر، تَرشّح إلى الانتخابات عدد كبير من أفراد القبيلة الواحدة


ولأن الدول المجاورة لقطر استخدمت القبائل العابرة للحدود، كبني مرّة، ضدّ الحُكم القطري في مفاصل مختلفة من تاريخ العلاقات، ترتدي المسألة القبلية حساسية، إلى حدّ دفْع السلطات القطرية إلى النصّ في أكثر من بند في قانون انتخابات مجلس الشورى، الذي أُقرّ في وقت سابق من العام الجاري، على تجريم إثارة النعرات القبلية أو الطائفية. لكن نظرة إلى لوائح قيد المرشّحين تُظهر أن العامل القبلي سيكون الأكثر حضوراً في الانتخابات، إذ في الكثير من الدوائر، تَرشّح إلى الانتخابات عدد كبير من أفراد القبيلة الواحدة، وفي حالات معيّنة أفراد من العائلة الواحدة، ما يشير إلى شدّة التنافس داخل القبائل والعائلات، وصعوبة الاتفاق على اسم واحد، وهو الأمر الذي قد يكون مردّه أن هذه هي التجربة الأولى، التي يمكن أن تتطوّر لاحقاً لتفرز متمرّسين في العمل التشريعي، كما يمكن أن تدخل عليها الأحزاب العابرة للحدود. ففي الدائرة 22، مثلاً، ثمّة عشرون مرشحاً يتنافسون على مقعد الدائرة، 19 منهم من آل الكواري، بينما الدائرة 21 فيها 8 مرشحين، كلّهم من آل الكعبي، والدائرة 24 فيها 8 مرشحين، كلّهم من آل المناعي، والدائرة 25 فيها 10 مرشحين، كلّهم من آل الكبيسي، والدائرة 26 فيها 6 مرشحين، كلّهم من آل النعيمي، والدائرة 8 فيها 8 مرشحين، 7 منهم من آل السويدي، والدائرة 20 فيها 12 من أصل 20 مرشحاً من آل المهندي. أما قبيلة بني مرّة، فتَركّز مرشحوها في الدائرة 16، حيث تمّ تسجيل 13 مرشحاً من القبيلة، من أصل 22 مرشحاً في الدائرة. وانتقد أفراد من القبيلة جعْل مراكز الاقتراع المخصّصة لها في السيلية قرب الدوحة، بينما تتمركز القبيلة في المناطق القريبة من الحدود مع السعودية. وما إن صدرت لوائح المرشّحين الأولية، حتى اشتعلت المعارك الكلامية، حيث اتهم البعض بني مرّة بالولاء "المضروب"، فيما ردّ الأخيرون بالسؤال عن "كيف يمكن لوطن يصنّف أبناءه بين أصلي ومغشوش أن يطلب منهم الولاء والإخلاص؟".
ومن شأن ارتفاع النزعة القبلية في الترشّح، ثمّ في التصويت، منْع وصول الكفاءات من خارج القبائل الكبرى، ومن الأفرع الصغيرة في القبيلة، كما إضعاف فرص وصول المرأة، على رغم ترشّح 29 امرأة من أصل 294 مرشحاً. وتضمّنت لوائح الترشيح بعض المفارقات، ففي الدائرة 5، ثمّة مرشح واحد سيفوز بالتزكية بعد انتهاء فترة التظلّمات والشكاوى وإعلان قوائم المرشحين النهائية، علماً أنه يحق لأيّ ناخب في الدائرة الانتخابية أن يعترض على إدراج مرشح في كشف المرشحين في الدائرة نفسها، لعدم توفّر أيّ من شروط العضوية فيه. لكن على الرغم من طغيان القبلية، تستطيع قطر الاستفادة من التركيبة السكانية التي يغلب عليها الأجانب لإخماد هذه النزعة، إذ يمثّل المواطنون 13 في المئة فحسب من مجمل السكان الذين يفوق عددهم الـ2.6 مليون نسمة. ومن بين الحجج القطرية في وجه المجنّسين الجدد، أن الكثير من هؤلاء المقيمين الأجانب موجودون في الدولة منذ عشرات السنين، ومع هذا لم يتحصّلوا على الجنسية. وتُشابه قطر، في ذلك، الإمارات، مع فارق أن أبو ظبي تستخدم هذا الخلل لسحق أيّ طموحات إلى المشاركة السياسية لدى مواطنيها، في حين أنه لا يمكن لقطر استخدام الأسلوب نفسه، لأنها أقامت سياستها الخارجية على التماهي مع جزء لا يُستهان به من طموحات مواطنيها. أمّا في السياسة الداخلية، فالثروة الهائلة وحدها كفيلة بتحييد الكثير من المشاكل وإرضاء معظم المواطنين، على رغم عدم قدرتهم على ممارسة الحريات السياسية بشكل كامل.
أيّ انتخابات خليجية، ومنها القطرية، تستحضر مباشرة انتخابات مجلس الأمّة الكويتي، باعتبارها المقياس الذي يقيس عليه كلّ الخليجيين ما يطمحون إلى ممارسته من حياة سياسية مفتوحة نسبياً. ومثلما لا يوجد في الكويت أعضاء مجلس أمّة من آل الصباح، ليس في قطر مرشّحون لمجلس الشورى من آل ثاني، وذلك لإقامة نوع من التوازن ولو كان محدوداً، على اعتبار أن مؤسسة الحكم بيد آل ثاني، فيجب أن تكون المؤسسة التشريعية بأيدٍ أخرى.