دمشق | يروي مسؤول حكومي سابق جانباً من مجريات مشاركته في كثير من الوفود الرسمية، التي كلفت قبل الأزمة زيارة محافظات المنطقة الشرقية والاطلاع على أوضاعها، يشير إلى أنه في إحدى المرات لم يجرؤ رئيس الوفد، وكان عضواً بارزاً في حكومة ناجي عطري، على حضور لقاء جماهيري بسبب الامتعاض الشعبي من تصريحاته ووعوده لمواطني تلك المحافظات، وهذا ظهر جلياً في اللقاء الذي شهد هجوما عنيفاً على الحكومة وسياساتها وأشخاصها. يبتسم المسؤول ويقول: «منيح يلي ما حضر».
لم تكن الأزمة الاجتماعية الخطيرة في منطقة الجزيرة وقفاً على مناطق بعينها، أو مؤقتة تبعاً لتطورات اقتصادية أو مناخية طارئة كموجة الجفاف التي ضربت البلاد لسنوات تعود إلى ما قبل عام 2008، إنما كانت، ولا تزال، أزمة شاملة وعميقة تشمل كل محافظات المنطقة ومدنها وقراها، وتتداخل في صناعتها واستمراريتها عوامل عديدة. وكثيرة هي التحذيرات التي أطلقت قبل عام 2011 من خروج الأزمة الاجتماعية في المنطقة عن السيطرة، لتتحول إلى أزمة وطنية تعاني منها سورية كدولة ومجتمع. ومع ان المؤشرات كانت واضحة تحت أعين الجميع، كانت الاستجابة الحكومية ضعيفة ومتأخرة. فمثلاً، في سنوات الجفاف الممتدة بين عامي 2006 و2008 التي كانت الأسوأ على البلاد منذ 40 عاماً، دفعت بنحو 60 ألف عائلة، بينها 37 ألف عائلة من محافظة الحسكة وحدها، إلى ترك منازلها ومناطقها، والإقامة في خيم على أطراف محافظات المناطق الجنوبية والساحلية والوسطى بحثاً عن «الفتات» من متطلبات استمرار الحياة، فيما كانت الحكومة القائمة آنذاك تواجه المشكلة وتداعياتها المتلاحقة على الورق وعقد المزيد من الاجتماعات.

مؤشرات «التفجير»

لذلك يرى كثيرون أنه كان طبيعياً أن تدخل المنطقة الشرقية على خط الأزمة الراهنة. قد لا يكون ذلك من باب تسجيل المواقف السياسية، لكن، بالتأكيد، كان الفقر والتخلف والإهمال و«الحقد» الاجتماعي والاقتصادي النافذة التي دخل منها التطرف والقتل والتسلح والاستغلال الخارجي. يؤكد الدكتور حسين القاضي أستاذ المحاسبة في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق ووزير الصناعة السابق أن «الأزمة من دون أدنى شك هي أزمة اقتصادية بالدرجة الأولى، برغم الغلاف الأيديولوجي. فالتخلف في مجال الإنتاج والعلم وغياب الخدمات الرئيسية والمدارس والعدالة وتفشي المحسوبيات والرشوة وعدم الاهتمام بتعليم اللغة العربية في تلك المنطقة، جميعها عوامل خلقت استياءً واسعاً لدى مواطني المنطقة الشرقية والشمالية من البلاد»، إذ تكشف البيانات الرسمية، مثلاً، أنه في محافظة كبيرة كالحسكة، تضم 16 منطقة وناحية و2381 قرية، ليس فيها سوى مركز ثقافي واحد فقط مقابل 844 مركزاً دينياً موزعة على 778 قرية. وتؤكد البيانات أيضاً أن نسبة الأمية بين سكان المحافظة وصلت عام 2011 إلى نحو 31.5%، ونسبة من يقرأ ويكتب الى 28.4% ليكون بذلك نحو 60% من سكان المحافظة خارج منظومة التعليم تماماً، فيما لم تتجاوز نسبة حملة الشهادة الجامعية وما فوق أكثر من 2.3%، والثانوية العامة 9.2%. وهذا يعني بوضوح أن أي رهان في بداية الأزمة على «الوعي» لتجنيب المنطقة الشرقية ما بدأت تشهده بعض المحافظات الأخرى كان خاسراً...فكيف إذا تزامن غياب الوعي مع انتشار واسع وحاد للفقر المادي والغذائي؟
يكشف مسح أممي للفقر غير منشور أن أكبر تركيز للفقراء يقع في المنطقة الشمالية الشرقية، وخاصة في ريف تلك المنطقة، الذي يمثل فيه الفقراء نحو 37% من الفقراء فقراً شديداً، و28.8% من إجمالي الفقراء. وهذا يفوق بكثير نسبة سكان هذه المنطقة إلى إجمالي سكان البلاد، التي لا تتجاوز 23.3%. كما أنها كانت المنطقة الأولى التي تدفع سريعاً ثمناً كبيراً للقرارات الحكومية، فمثلاً تشير التقديرات إلى أن نسبة الفقر الإجمالي في هذه المنطقة ارتفعت سريعاً بعد أول قرار لرفع سعر مادة المازوت في أيار من عام 2008، وما رافق ذلك من ارتفاع في أسعار السلع الغذائية، فقد تحركت النسبة من 39% في تشرين الأول عام 2007 إلى 45.7% في حزيران من عام 2008، وهذا تسبب، وفق ما يقول الدكتور القاضي، «بعودة المواطنين إلى أسلوب حياة التنقل بحثاً عن لقمة العيش بعد فترة من الاستقرار، وتالياً خلو قرى كاملة في تلك المنطقة من سكانها. وفي ضوء استمرار تفاقم الوضع الاقتصادي وعدم إدراك مؤسسات الدولة لخطورة ما يحدث وضرورة معالجته على نحو جذري، تكونت بيئة مناسبة لتفجير الأزمة وانضواء كثير من المواطنين في تنظيمات مختلفة الأهداف والمرجعيات، والبحث عن مصادر للمساعدة والمال، وهذا ما تلقفته سريعاً جهات خارجية».
وكي تكتمل ثلاثية الأزمة الاجتماعية، كان غياب الخدمات والمرافق العامة. ففي بيانات إحصائية جمعت على مشارف بدايات الأزمة الحالية تبين أن نحو 53.9% فقط من مساكن المواطنين في محافظة الحسكة تستخدم شبكة عامة للصرف الصحي، و37.2% تستخدم حفرة فنية، والخطير أن 7% من المساكن كانت تعتمد على مجارٍ مكشوفة، وتضيف البيانات أن 90% من شوارع قرى الحسكة ترابية، و3.4% منها فقط معبدة.
وحتى القطاع الصحي، الذي تعلن الحكومات المتعاقبة تحقيق البلاد فيه مؤشرات متقدمة، تحضر مؤسساته ومراكزه بخجل في تلك المنطقة، فنحو 97.8% من قرى الحسكة تخلو من مستوصفات صحية، فيما تغيب العيادات الطبية عن 99.2% من القرى، والأسوأ أن 98.7% من القرى تخلو من أي صيدلية... إذاً أين تجسدت مشاريع التنمية التي جرى التصريح عنها خلال سنوات ما قبل الأزمة؟ وما مصير مليارات الليرات المخصصة لذلك؟


لا إنكار في المسؤولية

يخلص التقرير الوطني الاستشرافي لمشروع سورية 2025 إلى أن «مفارقة هذا الإقليم تتمثل في أنه المستودع الأساسي للناتج المحلي الإجمالي المستند إلى القطاع الأولي (الزراعة والصناعة الاستخراجية)، بينما يتربع سكانه على رأس الأقاليم الأكثر فقراً في سورية من ناحية مستوى الفقر وعمقه أو شدته، وتدني مؤشرات تنميته البشرية التي تضعه في مرتبة الأقاليم الوطنية المتدنية بمستوى تنميتها البشرية، والطاردة لكفاءاتها وقدراتها البشرية إلى خارجها، ولا سيما إلى المغترب مما يزيد من الفجوة التنموية بينه وبين الأقاليم الأخرى من جهة، ويعزز من طرفيته بالنسبة إليها من جهة ثانية».
بعيداً عن العامل الخارجي ودوره في صناعة الأزمة وتأجيجها، فإن قراءة العامل الداخلي تبقى المهمة الأكثر صعوبة لمؤسسات الدولة السورية خلال الفترة المقبلة، فهذه العامل ليس واحداً ولا يمكن اسقاطه على جميع المناطق التي تحولت إلى ساحات حرب وخراب، إذ إن تقدم المؤشرات التنموية والإنسانية في بعض المناطق يستدعي من مؤسسات الدولة قراءة متأنية وشفافة تختلف في فرضياتها وركائزها عن تلك التي يجب أن تجري للمناطق الأخرى الفقيرة بمؤشراتها التنموية والاجتماعية والفكرية، ففي الأولى هناك حاجة لمعرفة أسباب الانقلاب على الواقع، أما في الثانية، فإن ما حدث كان متوقعاً، وبناءً عليه فالأولوية هي لمعرفة كيف وصلنا إلى هنا، ومن هو المسؤول عن ذلك؟!




بالأرقام

■ 7.6 ملايين هكتار إجمالي مساحة المنطقة الشرقية.
42% من المساحة القابلة للزراعة على مستوى سوريا موجودة فيها.
■ 56-58% نسبة إنتاجها من محصول القمح قياساً لإجمالي إنتاج البلاد.
■ 68-78% نسبة إنتاجها من القطن قياساً لإجمالي إنتاج البلاد.
■ 62-72% نسبة مساهمتها في إنتاج محصول الذرة الصفراء.
■ 36-41% نسبة عدد رؤوس الأغنام إلى إجمالي القطيع السوري.
■ 360 ألف برميل انتاج محافظتي الحسكة ودير الزور من النفط.




انخفاض محصول القمح نحو 18%

رجّحت منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) «تراجع إنتاج القمح في سوريا لهذا العام إلى 1,97 مليون طن بسبب الجفاف في البلاد»، عما كان عليه متوسط الإنتاج قبل الأزمة (3,5 ملايين طن).
وأوضحت المنظمة، في بيان أمس، أنّ «الطقس الجاف في سوريا من المرجح أن يتسبب بانخفاض المحصول السنوي من القمح في سوريا بنحو 18%». وأضافت إن «محصول الشعير السوري سينخفض على الأرجح 65 في المئة في 2014، ليصل إلى 0.34 مليون طن»، مبيّنة أنّ «ضعف محاصيل الحبوب في سوريا سيرفع على الأرجح حاجاتها من الواردات في سنة التسويق المقبلة من تموز 2014 إلى حزيران 2015».
وأعلنت وزارة الزراعة السورية، سابقاً، أن إجمالي المساحات المزروعة بمحصول القمح في جميع المحافظات بلغ حتى مطلع شباط 2014، نحو 1.2 مليون هكتار بنسبة تنفيذ 72%، مقابل 1.1 مليون هكتار للشعير بنسبة تنفيذ 80%.
وتوقع خبراء، في وقت سابق، وفق وكالة «رويترز»، أنّ سوريا قد تحصد أسوأ محاصيل القمح منذ 40 عاماً، بسبب عوامل الحرب والجفاف، مشيرين إلى أن محصول القمح سينخفض إلى أقل من مليون طن وبأحسن الأحوال لا يزيد على 1.7 مليون طن.
(الأخبار، رويترز)