لم يَعُد زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، عن قراره مقاطعة الانتخابات، إلّا لأنه أيقن أنه لن يعطّل الاستحقاق أو يؤجّله، كما لن يطعن في شرعيته. وعليه، ستكون الطريق مفتوحةً أمام خصومه السياسيين في «البيت الشيعي» للظّفر بعدد مقاعد يتيح لهم الإتيان برئيس الوزراء الجديد. كان الصّدر قد اتّخذ قرار المقاطعة في منتصف تموز الماضي تحت ضغط الشارع، بعد أن حُمّل وزراء مقرّبون منه مسؤولية أزمات الكهرباء وحرائق مستشفيات «كورونا»، والناجمة عن فساد مستشرٍ في وزارات الكهرباء والنفط والصحة، ما أضعف فُرص تيّاره، الذي تَوقّع قبل ذلك الحصول على عددٍ من المقاعد يتيح له بسهولة تشكيل حكومة تستبعد ممثّلي «الحشد الشعبي»، والسياسيين المتحالفين معهم. لكن المضيّ في الانتخابات، على رغم مقاطعتها من قِبَل الصدريين، أكد للأخيرين أنه لا أُفُق للعمل من خارج الندوة النيابية، وبالتالي إن الخروج منها قد يؤدي إلى التهميش.
عضو «مكتب الشهيد الصدر»، صادق الحسناوي، يرى في حديث إلى «الأخبار»، أن إعلان الصدر انسحاب تيّاره من الانتخابات، ومن ثمّ عودته للمشاركة فيها، «لم يكن مزاجياً ولا اعتباطياً، إنّما كان الانسحاب لأسباب أعلنها في حينه وكانت تنبئ بانسداد سياسي وخلافات حادّة بين القوى السياسية، لا يمكن معها تحقيق طموحات الشعب العراقي وتشكيل حكومة قويّة قادرة على الوقوف بوجه مافيات الفساد والحدّ من خطرها»، مستدركاً بأن «توقيع كبار قادة الكتل على وثيقة سياسية تعهّدوا ضمنها بالعمل معاً على إصلاح الوضع القائم بجدّية ومسؤولية وطنية وأخلاقية»، دفع الصدر «للعودة إلى المشاركة وفق الاشتراطات التي تضمّنتها الوثيقة المذكورة». ولا يزال «التيار الصدري» عند موقفه القاضي بعدم الإعلان عن أيّ تحالفات مع قوى سياسية أخرى، إلّا بعد ظهور نتائج الانتخابات، وإن كانت التحالفات صارت معروفة. إذ أجرى التيار، سابقاً، مشاورات مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» وآخرين، استهدفت الترتيب لتحالف محتمل بعد الانتخابات يستبعد القوى المتحالفة مع إيران. وفي هذا الخصوص، يقول الحسناوي إن «الحديث عن التحالفات سابق لأوانه، لأن التيار الصدري دخل الانتخابات بمفرده من دون تحالفات مسبقة، تاركاً ذلك لما بعد نتائج الانتخابات التي من المؤكد ستفرض تحالفات قائمة على أسس وطنية، في حال تحقيق التيار الصدري نسبة فوز معتدّ بها فيها».
استياء العراقيين من الأوضاع المتردّية لا يقتصر على قوّة سياسية واحدة أو شخصية بعينها


وعليه، يُعتبر الهدف الأول لعودة الصدر، هو قطع الطريق على فوز القوى المتحالفة مع إيران بغالبية برلمانية تتيح لها الإتيان برئيس للوزراء من بين صفوفها أو من المقرّبين منها، وفي الوقت نفسه على بعض الرموز من الطامحين للعودة إلى المنصب، من أمثال الأمين العام لحزب «الدعوة»، رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي تزايد الحديث بين المقرّبين منه عن احتمال عودته إلى المنصب. وفي هذا الإطار، يلفت النائب عن «ائتلاف دولة القانون»، عمران الكركوشي، في تصريح إلى «الأخبار»، إلى أن «رئاسة الوزراء استحقاق انتخابي، وننتظر نتائج الانتخابات ليكون الموقف آنذاك عملياً»، لكنه يؤكد أن «هناك مؤشرات إلى رغبة عدد من القوى السياسية في تولّي المالكي رئاسة الوزراء، وهناك متغيّرات أخرى تُعزّز هذا التصوّر». وعلى رغم أن المالكي يستند في طموحه إلى قدرته على أن يكسب أصواتاً من فصائل المقاومة المستاءة من رؤساء الوزراء والقوى السياسية الذين يسعون للتضييق عليها، وعلى تخفيف التوتّر بين القوى السياسية، ومكافحة السلاح المتفلّت، إلّا أن إقصاءه في المرّة الأولى عن رئاسة الوزراء في العام 2014، جاء بعد أن وصلت الأوضاع في عهده إلى ذروة التوتّر، وهو ما مثّل أحد العوامل التي سمحت لـ«داعش» باكتساح المدن العراقية والوصول إلى أبواب بغداد، فضلاً عن أن الفساد لم يكن أقلّ انتشاراً آنذاك ممّا هو الآن. مع ذلك، أجرى المالكي بعض اللقاءات التي اعتُبرت استطلاعاً لمدى قبول القوى السياسية عودته، وأبرزها لقاؤه مع زعيم «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، مسعود بارزاني. ولا يحبّذ الكركوشي الحديث عن نتائج هذا اللقاء، مكتفياً بالقول إنه أثمر الاتفاق على إجراء الانتخابات في موعدها، مؤكداً رفض «ائتلاف دولة القانون» الحديث عن التأجيل «لأنه سيمثّل هزيمة أمام الاستحقاق الديمقراطي الأساسي الذي يفعّل دور النظام السياسي في حلّ أزمات البلاد».
على أن استياء العراقيين من الأوضاع المتردّية لا يقتصر على قوّة سياسية واحدة أو شخصية بعينها، بل ينسحب على كلّ القوى السياسية المُمثَّلة في البرلمان والمشارِكة في السلطة، والتي يتفاقم شعورها بالقلق، خاصة في ظلّ احتمال ارتفاع نسبة الاقتراع بشكل كبير عن تلك التي سُجّلت في انتخابات 2018. مع ذلك، حتى لو جاء أداء الأحزاب الكبرى ضعيفاً، فإن تراجعها قد لا يُترجم بالضرورة إصلاحات أو مجلس نواب أفضل، أقلّه في المدى القريب. فالأوضاع الداخلية المعقّدة، ومحاولات استخدام الساحة العراقية لاستهداف إيران، من قِبَل الاحتلال، أو قوى إقليمية متحالفة معه، تضع الحلّ في مكان آخر، غير صناديق الاقتراع، تماماً كما لم يَعُد في الرهان على الشارع، لأن الأخير ـــ في جزء منه ــ يتحرّك بإيحاءات خارجية، إقليمية وغربية تحديداً. وإذا كان الاحتلال يحزم متاعه للرحيل، فانسحابه سيؤثّر حكماً على «الشارع» الذي يتحرّك بوحيه ودعمه. على أيّ حال، أدرك جميع اللاعبين الداخليين والخارجيين محدودية المكاسب الممكن تحقيقها من التلاعب بالساحة العراقية، والمخاطر الكامنة، في المقابل، في هكذا تلاعب عليهم، وأوّلهم الاحتلال. وهذا ما أظهره اجتماع الخصوم الإقليميين، بمشاركة دولية، على مائدة مصطفى الكاظمي في «قمّة بغداد»، التي سعى الأخير من خلال عقدها (ونجح إلى حدّ ما) إلى تقديم نفسه كشخصية وسطية ما زالت تمثّل حاجة للعراق في ظلّ الانقسام الحادّ للقوى السياسية، مثلما كان الأمر عند وصوله إلى الموقع الأوّل في العراق، حين واجه سلفه عادل عبد المهدي طريقاً مسدوداً إثر موجة التظاهرات التشرينية في 2019، بعد سنة واحدة على الانتخابات التي جاءت به إلى منصبه.