تشابكت مسارات خريطة الطريق اللّيبية، قبل نحو أربعة أشهر فقط من موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في البلاد (24 كانون الأول 2021)، لتُهدّد بخروج العمليّة برمّتها عن مسارها. وما بين جهود اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، لضمان ترشّحه في انتخابات الرئاسة عبر تكتيكاته التقليدية، والعودة الخاطفة لسيف الإسلام القذافي إلى المشهد، تُواجه حكومة عبد الحميد الدبيبة كتلاً كبيرة في شرق البلاد وغربها، ساعيةً إلى وقف حركة العملية السياسية، أو ـــ على الأقلّ ـــ ضمان اتّساق مخرجاتها مع مصالح تلك الكتل. وبينما يواصل الدبيبة جهوده لـ«تأمين» علاقات بلاده مع الأطراف الدولية والإقليميّة المنخرطة في الأزمة، تظلّ فكرة المحاصصة حاكمة لتوجّهات مختلف الأطراف المذكورة، التي تَبرز من بينها، خصوصاً، مصر، المُرشّحة للعب دور أكبر في هذا الملفّ، في ظلّ تعزُّز التنسيق الأميركي معها، وفق ما أوحت به زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، الأخيرة، إلى القاهرة.
تحدّيات «حكومة الوحدة»
تسعى حكومة الدبيبة إلى تجاوز المعوّقات الداخلية التي تعترض طريق الانتخابات، مُحاوِلةً تدارُك إخفاق «ملتقى الحوار السياسي»، إلى الآن، في الاتفاق على القاعدة الدستورية للانتخابات، وتثبيت صلاحيّاتها العسكرية والأمنيّة، والترتيب لدفْعةٍ دولية قوية لتطبيق خريطة الطريق. يأتي ذلك بينما تتصاعد حدّة التوتر بين الدبيبة وحفتر، بعد إعلان الأخير حركة ترقياتٍ واسعة داخل «الجيش الوطني»، من دون أيّ تشاور مع رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، وفق ما يقتضيه الاتفاق السياسي الذي تمّ التوصّل إليه في جنيف، مطلع العام الجاري. وبرّر حفتر خطوته تلك بأن «الجيش لن يخضع لأيّ سلطة إلّا تلك المنتخَبة من قِبَل الشعب اللّيبي»، في موقفٍ يذكّر بخطواته الممهّدة لحملة «فتح طرابلس» في ربيع 2019، والتي قادت إلى تعميق الأزمة، ما يمثّل ـــ في المحصّلة ـــ عودةً مقلقةً لمراوغات حفتر السياسية، بعد أقلّ من أسبوع من إعلان المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، إمكانية أن يلعب اللواء المتقاعد دوراً في «تكوين جيش ليبي موحد»، وقفزةً فوق مساعي القاهرة منذ حزيران الفائت (زيارة مدير المخابرات المصري، عباس كامل، إلى طرابلس) إلى طمأنة حكومة الدبيبة بشأن سلوك حفتر مستقبلاً. ويلاحظ مراقبون ليبيون أنه على الرغم من رسوخ وجود «حكومة الوحدة الوطنية» وقادتها، واستمرار حفتر في الانفراد بالقوّة الفعليّة على الأرض في شرقي ليبيا ممّا يؤشّر إلى أن دوره سيظلّ قائماً حتى يتمّ نزع سلاح قوات الأمن والقوات العسكرية والميليشيات وإعادة دمجها في جيش موحّد وحيد؛ فإن المفارقة تكمن، بحسب هؤلاء، في تآمر «قوى الأمر الواقع» في غرب ليبيا، مِن مِثل «مجلس الدولة الأعلى» (غير المنتخَب)، مع نظيرتها في شرق البلاد، لتفادي عقد الانتخابات، ممّا سيضمن في النهاية بقاء حفتر مهيمناً في الشرق.
تتزايد حدّة المنافسة على عملية إعادة البناء وسط توقُّعات بحاجة البلاد إلى استثمارات تتجاوز قيمتها 100 بليون دولار


احتدام نزاع المحاصصات
تتزايد حدّة المنافسة على عمليّة إعادة البناء في ليبيا، وسط توقُّعات اقتصاديين ليبيّين بحاجة البلاد إلى استثمارات تتجاوز قيمتها 100 بليون دولار، يُرجَّح أن تحصل كلّ من إيطاليا ومصر وتركيّا على نصيب الأسد منها. وبينما سُجّلت، في الأسابيع الأخيرة، زيارات مكثّفة لوفود الشركات ورجال الأعمال إلى العاصمة طرابلس، وقّع الدبيبة في روما واسطنبول اتفاقات مهمّة في قطاعَي الطاقة (تحتلّ ليبيا قائمة الدول الأفريقية الأولى في احتياطيات موارد الطاقة) والتشييد، الذي تملك فيه تركيا ومصر خبرةً كبيرة، إلى جانب ميزة موقع الأخيرة جوار ليبيا. كما برزت إسبانيا في هذا المسار، عقب زيارة رئيس وزرائها، بيدرو سانشيز، إلى طرابلس في حزيران الفائت، والتي تلتها زيارة الدبيبة إلى باريس. وفي استكشاف للمواقف الإقليمية، وصلاتها بالاستثمارات المرتقبة، زار نورلاند مصر وتركيا والمغرب في 16 آب، حيث اعتبر أن «الاستقرار والتقدّم المنتظم في المسارَين السياسي والأمني سيقودان إلى فرص اقتصادية أكبر، واستثمارات أجنبية، وازدهار الشعب الليبي». كما التقى نورلاند في القاهرة بخليفة حفتر، في سياق موازٍ لاجتماعات بيرنز هناك، داعياً إيّاه إلى استخدام نفوذه في هذه المرحلة الحاسمة لفعل ما هو في صالح الليبيّين، الأمر الذي عدّه بعض المراقبين «إعادة إنتاج لدور حفتر» على رغم «التحفّظات» الأميركية. وإلى جانب التأثير المصري والتركي المتزايد في الملفّ الليبي، يتصاعد بشكلٍ واضح دور المغرب، الذي تحدّث نورلاند عن احتمال استضافته محادثات ختاميّة بين الأطراف الليبية من أجل التوصّل إلى اتفاق سياسي جديد.

الحضور الأوروبي
يتّفق الأوروبيون، الآن، بعد سنوات من الانقسام، على دعم «حكومة الوحدة الوطنية»، وصولاً إلى عقْد الانتخابات الليبيّة في موعدها. وإلى جانب حرصهم، وفي مقدّمهم الإيطاليون والفرنسيون، على ضمان حصص كبيرة في مشروعات إعادة بناء الدولة، فإن ملفَّي مواجهة الإرهاب وضبط حركة الهجرة عبر الأراضي الليبية إلى أوروبا لا يزالان حاكمَين للتحرّك الأوروبي؛ حيث أعلنت وزارة الداخلية الإيطالية، على سبيل المثال، أوائل آب الجاري، عزمها تكثيف التزامها المالي لتعزيز التنمية الريفيّة في جنوب ليبيا المتأثّر بتدفّقات هجرة كبيرة في العام الحالي، فضلاً عن تطوير مشروع تُطبّقه الوزارة بالفعل في هذه المنطقة الشاسعة لضبط الحدود الليبية، بالتعاون مع «منظّمة الهجرة الدّولية». أمّا فرنسا، التي أعلنت سابقاً عزمها سحب قواتها من إقليم الساحل مطلع عام 2022 (بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المرتقبة)، فقد كرّر رئيسها، إيمانويل ماكرون، في تموز الفائت، إعلان نيّته سحب 2000 جندي فرنسي من هناك بحلول آب الجاري، واستكمال سحْب البقيّة «بعد الفشل في تحقيق السلام في الإقليم». ويرتبط بهذه الخطوات تراجعُ الحضور الفرنسي المباشر في ملفّ مواجهة الإرهاب في ليبيا، والاقتصار على التحرّك عبر أدوار فاعلين محليّين. وبشكلٍ عام، فإنّه لا يمكن لأوروبا أو ليبيا تجاهل أهميّة العلاقات بينهما، لاسيّما أن تكوين حكومة الدبيبة وتماسكها يتيحان للأوروبيّين فرصة العمل معاً من أجل ضمان عدم عودة الصراع المفتوح وامتداده إلى إقليم الساحل (مع الأخذ في الاعتبار أن قتل الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي، في نيسان 2021، تمّ على يد مجموعة مسلّحة متمركزة في ليبيا). كما أن التوقّعات بوجود روسي عسكري دائم في ليبيا تُشكّل محلّ قلقٍ أوروبي.

الدور المصري
حضَر الملف اللّيبي، الذي ظلّ على قائمة أولويات الخارجية المصرية منذ أكثر من عقد، على رأس أجندة الاجتماع الذي عقده بيرنز مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في ما دلّل على تعويلٍ أميركي على خبرة مصر في هذا الملفّ، الذي لا تفوت المراقبَ، أيضاً، ملاحظةُ الصّلة الوثيقة لبيرنز به، منذ عام 2012 على أقلّ تقدير، عند مرافقته جثامين السفير الأميركي ج. كريستفور ستيفنز، وثلاثة أميركيّين آخرين، من قاعدة «رامشتين» الجوّية في ألمانيا إلى واشنطن، بعد مصرعهم في الهجوم على المجمّع الأميركي في بنغازي. نتج من ذلك الاجتماع اتفاقٌ على تفعيل التعاون الاستخباراتي والأمني، وإبداء واشنطن تفهّماً أكبر للمخاوف المصرية من احتمالات تصاعد النشاط الإرهابي في ليبيا، وضمان تحييد تحرّكات حفتر العسكريّة إلى حين عقْد الانتخابات الليبية، لاسيّما أن للأخير صلاته السابقة المعروفة بالاستخبارات الأميركية، كما أنه حضر جانباً من محادثات بيرنز ونورلاند في القاهرة. بالنتيجة، يبدو أن ثمّة توجّهاً نحو تعزيز دور مصر في جهود الوساطة وتسوية الملفّات العالقة بين أطراف الأزمة الليبية، وسط توقّعاتٍ بتغيّراتٍ إقليمية بعيدة المدى ستؤثّر على ليبيا ومواءمات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة فيها، للوصول إلى أفضل صيغة ممكنة للمحاصصات الاقتصادية.