عند كلّ مفصلٍ من مفاصل الحياة السياسيّة القطرية، يجري استحضار قبيلة بني مُرّة. وإذ لا يمكن إنكار حق مواطنين قطريّين في الترشّح والتصويت في انتخابات مجلس الشّورى المقرَّرة في تشرين الأوّل المقبل، بغضّ النظر عن تاريخ حصولهم على الجنسية، إلّا أنّ استخدام القبيلة العابرة للحدود من قِبَل دول مجاورة، في تصفية حسابات سياسيّة مع الدّوحة، يعطي الأخيرة الحق في أن تشعر بالقلق. يضع ذلك قطر بين خيارين: إمّا أن تُجري انتخاباتٍ لا تشوبها شائبة، وتُخاطر بتسلّل عناصر قد تخلّ بالتوازن الذي تقوم عليه الدولة، إلى المجلس التشريعي، وإمّا أن تقيم انتخابات «نصف ديموقراطية»، وتثير احتجاجات من قِبَل المنتَقصة حقوقهم. ارتأت الدّوحة، ببساطة، الخيار الثاني، لأسباب تتعلّق بسلامة النظام، بعدما أُجبرت على تأجيل الانتخابات، المنتظَرة منذ سنواتٍ طويلة، مَرّة بعد مَرّة، إلى أن استقرّ الموعد على تشرين الأول، إثر إقرار الحكومة في وقتٍ سابق من العام الجاري قانون الانتخابات، من دون تحديد يوم التصويت إلى الآن، على رغم تأكيدها أنّ لا تأجيل جديداً. وتَمثّل أحد أبرز أسباب ذلك التأجيل المتكرّر في الاحتجاج على البند الذي يحظّر إثارة النّعرات القبليّة أو الطائفية في قانون الانتخابات، والذي اعتُبر من قِبَل كُثر في بني مرّة استهدافاً للقبيلة، على رغم أنّ مثل هذه الموانع موجودة في كلّ القوانين الانتخابية في العالم، وهي ضروريّةٌ أكثر في منطقة يتفوّق فيها الولاء القبلي والطائفي على الولاء الوطني. لعلّ ما يساعد على اختراق قبيلة بني مرّة من الخارج، هو تمركزها على الحدود بين قطر والسعودية، حيث كان لها دورٌ حتى في تشكيل الحدود، عند الترسيم في العام 1992، والذي أعقب معركة الخفوس بين البلدين. انتهى الأمر حينها إلى تسليم قطريّ بسيطرة السعودية على خور العديد، الذي يحول دون وجود حدود برّية مباشرة بين الإمارات وقطر. منعطفاتٌ حاسمةٌ أخرى في التاريخ القطري الحديث، جرى الزجّ فيها أيضاً ببني مرّة، من بين أبرزها وقوف أجزاء كبيرة من القبيلة مع الأمير الأسبق خليفة بن حمد آل ثاني، في العام 1996، لدى محاولته استعادة السلطة من ابنه حمد (الذي انقلب عليه قبل ذلك بعام)، والتي اتَّهمت قطر السعودية والإمارات والبحرين بدعمها. أمّا المَرّة الأخيرة التي لعب فيها بنو مرّة دور حصان طروادة للسعودية وحلفائها، فقد وقعت قبل أربع سنوات، حين قاد شيخ القبيلة، طالب بن لاهوم آل شريم، الذي كان يحمل الجنسية القطرية، تحرّكاً موازياً للمقاطعة التي فرضتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر على بلاده في العام 2017 واستمرّت ثلاث سنوات، منادياً بسقوط الأمير تميم بن حمد، ليؤول تحرّكه إلى نزْع السلطات القطرية جنسيّته مع نحو 54 فرداً من القبيلة، التي أعلن كُثرٌ من أبنائها، في المقابل، ولاءهم للأمير. يومها، بدا رهان المناهضين للحُكم القطري من بني مرّة، كبيراً، خصوصاً أن الخطّة السعودية – الإماراتية قضت باجتياح قطر عسكرياً والإطاحة بحُكّامها.
كان رهان المناهضين للحكم القطري من بني مرّة، كبيراً على خطّة سعودية – إماراتية لاجتياح قطر عسكرياً


حالياً، لا يمكن فصل احتجاجات بني مرّة على قانون الانتخاب، عن الاعتراض السعودي - الإماراتي على أصل إجراء الانتخابات في قطر. وعلى رغم أنه لا يمكن تبرير حرمان مَن يحمل الجنسية القطرية من الترشّح أو التصويت، إلّا أنّ هذا لا يلغي أنّ الانتخابات تمثّل خطوةً واسعةً إلى الأمام في خليجٍ لا يعرف الديموقراطية إلا لماماً، نحو فتح الحياة السياسية القطرية أمام المشاركة الشعبية، التي تضاف إلى الحيوية التي تتّسم بها السياسة الخارجية القطرية. في الكويت مثلاً، عند بدء الانتخابات في العام 1963، لم يكن مسموحاً لا للمجنّسين ولا للمرأة بالتصويت، ولكن منذ ذلك الحين باتت الانتخابات مفتوحةً أمام الجميع، ترشّحاً وتصويتاً. وسيقتصر حق الترشّح والتصويت في الانتخابات القطرية، على المواطنين «الأصليين»، أي أحفاد مَن حصلوا على الجنسية قبل العام 1930، بينما القطريون المجنّسون المولودون في قطر، والذين حصل أجدادهم على الجنسية القطرية بعد العام المذكور، فيحقّ لهم التصويت فقط، ولن يُسمح لباقي المجنّسين لا بالترشّح ولا بالتصويت.
احتجاجات بني مرّة، كالعادة، اتّسمت بالهجوم الشديد على القيادة السياسية في قطر، بشكلٍ أثار مخاوف قبائل أخرى من تهديد الاستقرار في الدولة. وفي مقطع فيديو نُشر في مواقع التواصل الاجتماعي، تَوجّه المحامي هزاع المري إلى أمير قطر في كلمة اعتُبرت «مسيئة»، قائلاً: «أنشدك أن تنجد نفسك وشعبك من فتنة عظيمة... لن نعيش كالأنعام نأكل ونشرب وأمرنا بيد غيرنا... وسنطالب بحقوقنا حتى لو كُتب الموت لنا في السجون». وأطلق ناشطون «هاشتاغ»: «آل مرّة هل قطر قبل الحكومه». قد تكون الحكومة القطرية بالغت، من جهتها، في الشدّة التي تعاملت بها مع تظاهرات أبناء القبيلة، أولاً لأن التظاهرات ليست بالحجم الذي يهدّد الحكم في الدوحة، وثانياً لأن الانتخابات لن تُغيّر كثيراً في تركيبة السلطة القطرية، نظراً لمحدودية صلاحيات مجلس الشورى. كان يمكن للدّوحة التي استطاعت أن تَغلِب «رباعيّ المقاطعة»، أن تتعامل بطريقةٍ أكثر ليونة مع التظاهرات، لاسيّما وأنّه من غير الممكن الاستمرار في التمييز بين المواطنين، إذا كان للتجربة الانتخابية القطرية أن تستمرّ، وإلّا فلا لزوم لهذه الانتخابات من الأصل.



«الجناسي»... مشكلة الخليج الدائمة
تُمثّل «الجناسي» (جمع جنسية وفق التعبير الرائج خليجياً) واحدة من المشكلات المستعصية في الخليج، الناتجة من وجود قبائل عابرة للحدود. إذ لطالما استُخدمت «الجناسي» سياسيّاً في تاريخ دول المنطقة، وستظلّ كذلك، مَنحاً أو إسقاطاً، بصورة جماعيّة ممنهجة، أو بصورةٍ فردية ضمن التضييق على أيّ نشاط معارض. يحصل الأمر برغبةٍ من الحكومات في التلاعب بالتوازنات القبلية أو الطائفية، أو من قِبَل أبناء القبائل العابرة للحدود، والذين يسعون إلى الحصول على جنسية الدولة الأكثر ثراءً، حتى إذا كانوا يملكون جنسيّة دولة خليجيّة، وهذا ليس حكراً على قبيلة واحدة ولا على دولتَين متجاورتَين بعينهما. هكذا كلّ القبائل، وهكذا كلّ الحدود. ومن هنا، تنشأ مشكلة مزدوجة تتمثّل في امتلاك عددٍ من الخليجيين جنسية دولتَين أو أكثر، وافتقار آخرين لأيّ جنسية، كالبدون. ولأن القانون القطري يمنع ازدواجية الجنسية، فقد قامت الحكومة في العام 2005 بتجريد الآلاف من أبناء بني مرّة (تحديداً من عشيرة الغفران، وهي أحد أفخاذ القبيلة) الذين يحملون الجنسية السعودية، من جنسياتهم القطرية.