تونس | تبدّل خطاب حركة «النهضة» بصورة لم تكن متوقّعة، إلى درجة أنها وضعت نفسها في تصرُّف الرئيس التونسي، قيس سعيد، الذي وصفت قراراته الأخيرة، بـ«الحل لأزمة سياسية مغلقة»، مبديةً، في الوقت نفسه، استعدادها للتخلّي عن السلطة متى استدعت الحاجة. تحوُّل باتت «النهضة» تتبنّى إزاءه سردية سعيد التي تحكي عن «تصحيح المسار وملاحقة الفاسدين»، متعهّدة على لسان رئيسها، راشد الغنوشي، بالمساهمة «في إعداد البلاد لانتخابات مبكرة». ويعني هذا التحوّل إدراك الحركة لحجم الأزمة التي تمرّ بها البلاد من جهة، وأزمتها الداخلية من جهة ثانية، والتي باتت تهدّد بانفراط عقد الحزب
ألقت أحداث الـ 25 من تموز الماضي بثقلها على حركة «النهضة»، ودفعتها إلى الرجوع خطوات إلى الوراء واللجوء إلى استراتيجية مغايرة، وإن لم تكن جديدة، قضت بإعلان قبولها «مغادرة السلطة»، والتخلّي عنها طالما استدعى الظرف تنحّيها. وأبعد من ذلك، أعلنت «النهضة» استعدادها لإجراء نقد ذاتي ومراجعات عميقة، داخلياً، وعلى مستوى علاقتها بالوضع السياسي. إعلانٌ تمظهرت بوادره في البيان الصادر عن رئيس الحركة، راشد الغنوشي، الذي وصف فيه إجراءات الرئيس قيس سعيد بـ«الحلّ لأزمة سياسية مغلقة»، معتبراً أن بعضاً منها فقط «ذهب إلى حدّ الخرق الجسيم للدستور». وعلاوةً على تغيُّر لهجة خطاب الحزب، فإن البيان الذي لم ينفِ مسؤولية الحركة عمّا آلت إليه الأزمتان السياسية والدستورية، وضَع «النهضة» نفسها في تصرّف الرئاسة في أيّ حلول تراها مناسبة. وجاء في البيان أن «حركة النهضة لن تتأخّر في دعم أيّ توجهات تحترم الدستور وفيها مصلحة عامة، وستعمل على إنجاحها. وفي مقدم ذلك، الحرص على إنفاذ القانون على الجميع دون استثناء وملاحقة الفاسدين مهما كانت مواقعهم وإنجاز الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي تحتاج إليها البلاد».
بذلك، يتبنّى الحزب سردية سعيد المتعلّقة بـ«تصحيح المسار، وبملاحقة الفساد»، فضلاً عن أن من شأن العناوين المرفوعة أن تخفّف عن كاهل «النهضة» مسؤوليةَ عرقلة أيّ إصلاحات يبادر إليها الرئيس التونسي. وحتى الغنوشي الذي طاولته انتقادات حول سوء إدارته للبرلمان والتسبُّب في أزمات متواصلة، تعهّد بدوره، في حال استئناف هذه المؤسّسة لعملها، بالمساهمة «في إعداد البلاد لانتخابات مبكرة»، ما يعني قبوله بتمرير تنقيحات القانون الانتخابي، وربّما المصادقة على مبادرات سعيد المتعلّقة بالاستفتاء على تعديل الدستور. وفي خضمّ التغييرات الجارية، أُعلن، في البيان نفسه، تأسيس لجنة سياسية برئاسة القيادي في «النهضة»، محمد القوماني، مهمّتها التفاوض حول الحلول السياسية حصراً. ويحمل اختيار القوماني دلالات عدّة، لكون هذا الأخير ليس مؤسّساً في الحركة، وإنّما قادم من «الحزب الديموقراطي التقدّمي»، وكان في شبابه من روّاد «اليسار الإسلامي». بالإضافة إلى ما تَقدّم، فإن القوماني يُعدّ من الوجوه التي حافظت على مسافة «ودّ» مع بقية الأطراف السياسيين، ومن بينهم سعيد. وإذ تعلم «النهضة»، جيداً، أن إعلانها التقاط الرسالة الشعبية الغاضبة منها «جرّاء غياب أيّ منجزات تنموية» طوال فترة وجودها في الحكم، غير كافية لتهدئة الغضب الشعبي، ولا حتى الاحتقان داخل الحزب نفسه، فإن بيانها كان مثقلاً بالرسائل الموجّهة إلى الطرفين، والتي تصبّ جميعها في خانة «الانحناء حتى تمرّ العاصفة» بأقلّ الخسائر الممكنة.
افتتحت «النهضة» بيانها بإبداء تفهّمها للغضب التونسي الناتج من عدم تلبية المطالب الاقتصادية والاجتماعية


وافتتحت «النهضة» بيانها بإبداء تفهّمها للغضب التونسي الناتج من عدم تلبية المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وهو اعتراف كان صعباً على الحزب الصدحُ به، إذ طالما تحصّن بأنه «لم يحكم»، وبأن شركاءه هم المسؤولون عن تعطيل الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية. وذهبت «النهضة» إلى حدّ الإفصاح عن قبولها مغادرة السلطة، كما فعلت سنة 2014 إبّان الحوار الوطني الذي أعقب الاغتيالات السياسية في البلاد. آنذاك، لم يكن قرار التنحّي عن السلطة بالنسبة إلى هذا الحزب أمراً هيّناً، بل تطلّب أن تغرق البلاد في أزمة اقتصادية وسياسية متعلّقة أساساً بصياغة الدستور. وأورد بيان الحركة الصادر أوّل من أمس، أن «النهضة ستولي أهمية أكبر للإعداد لمؤتمرها الوطني الـ 11 الذي نحرص على أن يكون قريباً، من أجل مراجعات عميقة في الخيارات والتموقع والهيكلة والتجديد الجذري»، على أن يُدخل الغنوشي، وفق البيان، «تحويرات على الهياكل القيادية بما يناسب ما استخلصه من رسائل الغاضبين ومقتضيات المرحلة الجديدة. ويجدّد التزامه باحترام النظام الأساسي للحزب الذي حدّد الرئاسة بدورتين». وتُعدّ هذه الفقرة إعلاناً عن تحوّل تام في تعاطي الغنوشي ومن يحيط به مع الخلافات التي جدّت منذ المؤتمر الماضي للحزب (2016) وتصاعدت حدّتها خلال السنة الماضية، ومحاولةً للملمة شتاته قبل أن ينفرط عقده تماماً.
وقبيل الانتخابات التشريعية سنة 2019، أجرت الحركة مؤتمرات جهوية أفرزت قوائم مترشحة للانتخابات، تمّت تزكيتها من الناخبين المحليين. ووسط التهليل للديموقراطية الداخلية التي سُوّقت آنذاك على أنها ممارسة فعلية يمارسها أبناء الحركة باختيارهم لمشروع ممثليهم في البرلمان، انقلب الغنوشي على هذه الديموقراطية قبل أيّام من تقديم الترشيحات رسمياً لهيئة الانتخابات، واختار تغيير القوائم والأسماء أفقياً ومحلياً. وإذ سجّل بذلك هدفاً ضدّ المختلفين معه في الرأي داخل «النهضة» نفسها، عبْر استبدال الأسماء المختارة محلياً بأفراد من حاشيته التي لا تعارضه ولا يمكن أن تشكّل خطراً عليه مستقبلاً، فإنه سجّل بنفسه هدفاً آخر في مرماه بعدما تعاظم حجم منتقديه في الداخل وخرجت بذلك الخلافات التي طالما أخمدتها الجماعة. وواصل رئيس الحزب نهج انتقاء قيادات الصفّ الأول ممَّن يتحمّلون المسؤوليات، فكان في ديوانه في البرلمان وفي رئاسة الكتلة النيابية والمكتب التنفيذي مَن يدينون بالإخلاص التام له. ولم تستسغ «مجموعة المئة» (مئة قيادي، أغلبهم من المؤسسين وممَّن ذاقوا معاناة التضييق والسجون زمَن زين العابدين بن علي) تشكيل الحاشية المطيعة، وعندما فشلت في حلّ الخلاف داخلياً، ولا سيما بعد تسويق «البطانة» لإمكانية إرجاء مؤتمر الحركة إلى أجل غير مسمّى، اتّجهت بدورها إلى وسائل الإعلام في رسالتين شهيرتين (في مخالفة ترقى إلى المحرّمات)، ندّدت الأولى، الصادرة في أيلول الماضي، بالطغمة المحيطة بالغنوشي وبرغبات هذا الأخير في السير بالحزب نحو احتكار رئاسته والاستخفاف بالمؤسسات التقريرية فيه على غرار مجلس الشورى. وأشارت إلى تراجع شعبية الحزب بعد ترؤّس الغنوشي للبرلمان، وهو خطأ وجَبَ تداركه بما يحفظ قيمة الرئيس المؤسّس وشعبية الحزب في آن واحد. وجاء رد الغنوشي على هذا النداء برسالة «ملغمة»، باتهام أصحابه، رفاق رحلة التأسيس، بانقلاب كالذي يقوده جنرالات العسكر. وأكثر مما تَقدّم، نبّههم إلى أن «جلود الزعماء خشنة»، ولا تخضع لعامل التهرئة إن كان مردّ مطالبتهم بتنحّيه تراجع شعبيته. أمّا عملياً، فقد كان الردّ بتغييب الموقّعين على الرسالة الأولى عن اجتماعات المكتب التنفيذي وتنزيلهم مرتبة «الغرباء داخل الحركة». وبالنسبة إلى المستقيلين من الحزب منهم، فقد تعرّضوا لحملات إلكترونية عنوانها التخوين والعمالة لـ«أعداء الحزب». ولم ينتهِ السجال عند هذا الحدّ؛ فـ«مجموعة المئة» عادت لترفع صوت المطالبة بتنحّي الغنوشي، وخاصّة بعد الارتباك الحاصل في تعاطيه مع الموقّعين على الرسالة الأولى. واعتبرت في الرسالة الثانية، الصادرة في تشرين الأوّل 2020، أن واقع الحال في الحزب وفي البلاد «لم يعد يحتمل الصبر».
ويبدو أنه، لولا أحداث الـ 25 من تموز، في بداية اليوم عبر حرق المحتجين مقارّ «النهضة» أو التدابير التي أعلنها سعيد في نهايته، ما كان الغنوشي ليرضخ لإرادة عقد المؤتمر في أقرب الآجال، وهو مؤشّر جليّ إلى انحسار سلطته وقدرته على فرض كلمته داخل مشروعه الذي احتكر لنفسه حقّ التصرف فيه، بل تبدو المسألة الآن طوق نجاة له ولحزبه ليجدّد القيادة والخطاب معاً، ولا سيما في ظلّ الاحترام الشعبي الذي يكنّه جزء من التونسيين لـ«مجموعة المئة» باعتبارها «الصوت العقلاني داخل الحركة». وبقدر ما قد تبدو المسألة تغييراً للجلد الخارجي، فإنها ستعود بالنفع على الحزب ليحافظ على شعبيته، وخصوصاً أنه يعيش أحلك أيامه منذ الثورة، وكان جليّاً أن مقولات احتكاره لسردية «الثورة والديموقراطية» لم تعد تنطلي على «النهضويين» أنفسهم، ما استدعى الانحناء أمام هذه العاصفة.