كلّ ما يستطيعه تحالف العدوان على اليمن، المدعوم عسكرياً من أميركا وبريطانيا، في معركة مأرب، هو تأجيل سقوط المدينة لا غير. إذ لن يستطيع، على أيّ حال، وقْفه، فهو حتمي، مثلما هي الهزيمة السعودية التي وقعت أصلاً، وتنتظر الإعلان عنها فقط. هذه الحقيقة يؤكدها البحث السعودي الحثيث والمستميت عن مخرج، والذي عكسَه ولي العهد محمد بن سلمان نفسه في مقابلته التلفزيونية في نيسان الماضي، حين عَرَض على حركة «أنصار الله» الدعم الاقتصادي و«كلّ ما يريدون» في مقابل وقف إطلاق النار. على أن السقوط المؤجّل لمأرب فضَح إدارة جو بايدن الذي وعد كمرشّح للرئاسة بإنهاء مشاركة بلاده في العدوان، ثمّ أكد وعده بعد تسلّمه منصب الرئاسة، مُعلِناً وقْف تسليم الرياض أسلحة هجومية. لكنه لم يفعل إلّا عكْس ما وعد به، بل وعكْس السياسة الأميركية الحالية القائمة على ضرورة إنهاء «الحروب الأبدية»، وخفْض الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من أفغانستان وتوقيع اتفاق مع العراق يقضي بسحب القوات القتالية منه قبل نهاية العام، وسحب بطّاريات «باتريوت» من الخليج.رمت أميركا بايدن، ومعها بريطانيا - التي أقرّت في شباط الماضي صفقة سلاح للسعودية بمليارَي دولار - بثقلهما كلّه في معركة مأرب، مع كلّ ما يستدعيه ذلك من إمداد لقوى العدوان بالسلاح، ومشاركة في الحصار والتجويع، وتحالف صريح مع «الإخوان المسلمين»، وآخر ضمني مع «القاعدة»، كان عرّابهما نائب الرئيس المنتهية ولايته علي محسن الأحمر، لوقف تقدّم الجيش و«اللجان الشعبية» نحو المدينة. في المقابل، كان لا بدّ من استراتيجية مختلفة من جانب قوات صنعاء، تعتمد القضم التدريجي، ولو البطيء، وتحتمل الكرّ والفرّ. وهي استراتيجية أدّت، مع الوقت، إلى شبه حصار للمدينة، سواءً بالسيطرة المباشرة أو النارية، بحيث لم يبقَ لها إلّا طريق إمداد واحد، من جهة حضرموت. لذلك كلّه، طالت معركة مأرب التي يتوقّف عليها الكثير. إذ إن خسارتها بالنسبة إلى السعودية تعني إعلاناً لفشل مغامرة ابن سلمان في هذا البلد، والتي افتَتح بها عهده، ومعها كلّ سياساته الاندفاعية التي انعكست عليه مأزقاً في الداخل السعودي، خاصة أنه جعل بلاده كلّها هدفاً لصواريخ «أنصار الله» ومسيّراتها. كما أن من شأن الخسارة زيادة موقف المملكة ضعفاً في الصراع على النفوذ في كامل الشرق الأوسط، لسنين طويلة قادمة.
تعتمد استراتيجية الجيش و«اللجان» في مأرب على القضم التدريجي، ولو البطيء، وهي تحتمل الكرّ والفرّ


الأميركيون والبريطانيون حاضرون منذ البداية في غرفة إدارة العمليات العسكرية في مأرب، وهذا يعكس مستوى القلق البالغ لديهم بخصوص المدينة، وخصوصاً بعد معركة الجوف التي تمكّن الجيش و«اللجان» من تحريرها والاقتراب أكثر من مأرب. عند هذه النقطة، كثّف الأميركيون والبريطانيون من محاولات الاتصال غير المباشر بحركة «أنصار الله»، وحاولوا إيصال رسائل تحذيرية عن حجم الإعدادات، بهدف إرهاب الجيش و«اللجان» لثنيهما عن الاقتراب منها، الأمر الذي فُهم منه أن حجم مشاركتهم سيكون فوق العادة في المعركة. وفوق ذلك، جرى تكديس القوات الموالية للتحالف السعودي في مأرب، بعد سحبها من الجوف والبيضاء ومناطق أخرى، فيما جيء أيضاً بعناصر حزب «الإصلاح» وتنظيم «القاعدة». ومن هنا، لم يكن مفاجئاً بالنسبة إلى قوات صنعاء أن تأخذ المعركة وقتاً أطول. وما لا تتبنّاه الإدارة الأميركية علناً، يأتي على شكل «توصيات» من مراكز الأبحاث. إذ أسدت مجلة «فورين أفيرز» التي يصدرها «مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن» نصيحة لإدارة بايدن مفادها: التزموا صراحة، تجاه السعودية، بمحاولة منْع سقوط مأرب في يد الجيش و«اللجان»، ومارسوا ضغوطاً على إيران في حال واصل «أنصار الله» تقدّمهم نحو المدينة. والحجّة أن سقوطها يمكن أن «يؤدي إلى إطالة أمد الحرب، ويتسبّب في تصعيد خطير من قِبَل كلّ الأطراف»، مع أن الصحيح هو العكس تماماً، فالسقوط قد ينهي الحرب، بإجبار السعودية على وقفها. ولا يقتصر التدخّل الأميركي والبريطاني على المستوى العسكري، بل رافقته المساهمة في تصعيد الحرب الاقتصادية، سواءً بإغلاق الموانئ ومنْع دخول المشتقّات النفطية، أو بمحاولة ضرْب العملة اليمنية، وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية، والعقوبات الجماعية التي يجري استخدامها كتكتيك حربي. ولكن حرب التجويع، التي تُمثّل «فضيحة الفضائح» لإدارة بايدن، الآتية بشعارات «حقوق الإنسان»، تشكّل أوضح دليل على أن المعركة العسكرية غير قادرة على الاستمرار حتى النهاية. فبحسب معلومات من مصادر معتبرة، فإن الأميركيين يشكّكون في قدرة التحالف السعودي والقوات الموالية له على مقاومة الضغوط العسكرية لقوات صنعاء لفترات طويلة.
القيادي في «أنصار الله» عبد الملك العجري يؤكد في حديث إلى «الأخبار»، أن «تقدير الحركة منذ البداية كان أن معركة مأرب لن تكون سهلة، ولم نحدّد وقتاً لحسم المعركة هناك، بقدر ما حدّدناها هدفاً، وما زالت هدفاً، وسيستمرّ العمل حتى تحريرها، هي وغيرها من مدن ومحافظات اليمن المحتلة». ويلفت إلى أن الجيش و«اللجان» يعتمدان «استراتيجية عسكرية تتناسب مع طبيعة تضاريس وجغرافية الحرب في الصحراء، ومع حجم الإعداد والتحضيرات للعدو، فالهجوم الكاسح هناك، كالذي حدث في محافظات أخرى، ليس الاستراتيجية الأمثل». أدركت قوات صنعاء، منذ البداية، ما يمثّله سقوط مدينة مأرب بالنسبة إلى التحالف السعودي وراعيَيه الأميركي والبريطاني، إذ «من خلال اتصالاتنا معهم، كُنّا نتوقّع أنهم سيرمون بكلّ ثقلهم وحشدهم وإماكاناتهم. وهذا ما حصل ويحصل بالفعل. ولو كانت مأرب إمارة سعودية أو ولاية أميركية لما فعلوا معها أكثر ممّا يفعلون الآن، ومع ذلك لا يزال التقدّم في مأرب مستمرّاً وإن كان يتمّ ببطء، لكنّنا مصمّمون على تحريرها وتحرير بقية مدن اليمن المحتلة، وهي معركة لا تتحدّد بالزمن بل بتحقيق الهدف»، وفق العجري. وعن زيارة المبعوث الأميركي، تيموثي ليندركينغ، إلى الرياض الأسبوع الماضي، وقبلها رحلة نائبة وزير الخارجية، ويندي شيرمان، إلى مسقط، يؤكّد العجري أنهما لم تحملا أيّ جديد لافت، «ومشكلة الإدارة الأميركية ومبعوثيها أن مقاربتهم للأزمة ورؤيتهم للحلول مجرّد ترداد لذات الرؤية وذات المقاربة السعودية، وإذا كانت إدارة بايدن جادّة في حلحلة الأوضاع في اليمن، فذلك لن يتمّ بتبنّي المقاربة السعودية، التي لو كانت مقبولة لدينا، لكُنّا قبلناها من السعودية مباشرة، ولا نحتاج لأن تُعيّن أميركا مبعوثاً جديداً ليقدّمها لنا».
«جريمة أميركا الأكبر» هي أنها مَن يملك مفاتيح الحل، لأنها الأكثر قدرة على الضغط على السعودية. ومع ذلك، فإنها ترفض حتى فصل المطالب الإنسانية عن الحرب العسكرية، وعدم استخدام التجويع كتكتيك حربي، بل تزيد في التصعيد الاقتصادي، في ما يتنافى مع نوايا السلام المزعومة، ويمثّل عقاباً جماعياً لا تبرّره الحرب. وإذ يقارن العجري بين هذا التصعيد الاقتصادي وبين ما يجري في لبنان الذي يرى فيه «مثالاً واضحاً على هذه الحرب الأميركية والخليجية»، فإنه يؤكد موقف حركة «أنصار الله» المتمسّك بالسلام كموقف مبدئي، مضيفاً «أننا ما زلنا نتمسّك بأيّ بارقة أمل تُنهي عن الشعب اليمني هذه المحنة العدوانية الآثمة، وما زلنا مستمرّين مع الأشقّاء في سلطنة عمان في مساعي السلام ودعم جهودهم واتصالاتهم، سواءً مع السعودية أو مع أميركا، من أجل رفع الحصار ووقف الحرب وإحلال السلام».