يبدو أن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، اختار الذهاب بعيداً في خصومته مع حركة «النهضة»، التي رفض دعوتها إلى الحوار، كونه لا يمكن إجراء محادثات مع «خلايا سرطانية»، على حدّ وصفه. وكانت الحركة أرفقت دعوتها تلك بشروط تُدرك أنها لن تروق «قصر قرطاج»، إذ يأتي في مقدِّمها إنهاء تجميد عمل البرلمان حتّى يتمكّن من منْح الثقة للحكومة القادمة. في هذا الوقت، تستمرّ حال المراوحة في ظلّ غياب خريطة طريق تُحدّد مآل المرحلة المقبلة، فضلاً عن إرجاء سعيّد تسمية رئيس للحكومة، وهو ما بدأ يزعج «اتحاد الشغل»، الذي حذّر من مخاطر الفراغ الحكومي
لم يتضح، بعد مضيّ نحو أسبوعين على إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، قراراته تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الحكومة، مآل الأزمة، لا سيما وسط إصرار الرئيس على اللعب منفرداً، وعدم الدخول في دوامة الحوار مع خصمه الرئيس، حركة «النهضة»، التي لا تزال تضع شروطاً من مثل تعيين رئيس جديد للحكومة وعرْض حكومته على البرلمان المُجمدة أعماله لنَيْل الثقة، على رغم دعوتها إلى الحوار، وإبدائها استعداداً لتقديم تنازلات تحُول دون «ضياع الديموقراطية». وفي حين تجاوز الشارع التونسي، سريعاً، قطوع القرارات، بل إن طيفاً واسعاً من التونسيين بدا مرحّباً بأيّ تغيير يُنهي حالة الجمود السياسي التي فاقمها الخلاف المعلَن بين رئاستَي الجمهورية والحكومة، وأثّرت أكثر ما أثّرت في معاش الغالبية في ظلّ وضع اقتصادي متأزّم زاد من حدّته غياب الاستجابة للأزمة الصحية، عمدت «النهضة» التي تعيش حالة تشظٍّ في صفوفها يُحتمل أن تقود إلى إبعاد رئيسها راشد الغنوشي من رئاستَي الحزب والبرلمان، بدايةً، إلى محاولة تسعير الأزمة من خلال حثّ المجتمع الدولي ورعاتها الإقليميين على التدخُّل لاستنقاذ التجربة التونسية الفريدة.
أكد سعيّد أنه «لا عودة إلى الوراء» ولا حوار إلّا مع مَن وصفهم بـ«الصادقين»


ولا يبدو الوضع أفضل حالاً على الضفة المقابلة، وإن كان الرئيس التونسي يستند إلى التفاف شعبي حول إجراءاته الاستثنائية التي يقول إن «مصلحة الوطن أملتها لإنقاذ البلاد من وضع متعفّن سياسياً واقتصادياً واجتماعياً». ولغاية الآن، لم يكشف سعيّد عن خريطة طريق للمرحلة المقبلة، فضلاً عن أنه لم يرشّح بعد شخصية لترؤّس الحكومة وإن كانت المؤشرات تدلّ على اتجاهه إلى اختيار خبير اقتصادي يكون مقبولاً من الجهات المانحة، فيما لفت المستشار في الرئاسة التونسية، وليد الحجام، في هذا السياق، إلى أن أيّ قرار نهائي لم يُتخذ بخصوص رئيس الحكومة الجديد، لكن «الخطوات حثيثةٌ في هذا الاتجاه»، وفق قوله. هذه المراوحة، يقابلها رفض قاطع من جانب الرئيس للدخول في حوار مع خصومه، إذ أكد، أوّل من أمس، أنه «لا عودة إلى الوراء» ولا حوار إلّا مع مَن وصفهم بـ«الصادقين»، في تصريح جاء عقب دعوة مجلس شورى «النهضة»، في اليوم ذاته، إلى فتح جسور الحوار مع الرئاسة للمضيّ في «إصلاحات سياسية واقتصادية وإنهاء تعليق اختصاصات البرلمان»، وتعهُّد الحركة بالقيام بمراجعات ضرورية وتجديد برامجها. لكن سعيّد قال في مقطع مصوّر نشرته الرئاسة ردّاً على الدعوات لإجراء محادثات إنه لا يمكن الحوار مع «الخلايا السرطانية»، مجدَّداً تعهّده بعدم المساس بالحقوق والحريات، ولافتاً إلى أنه «لم يتمّ اعتقال أحد في البلاد من أجل رأيه». في هذا الوقت، دعا «الاتحاد العام التونسي للشغل» ذو التأثير القوي، الرئيس قيس سعيّد، إلى الإسراع في تعيين حكومة جديدة، فيما حذّر أمينه العام، نور الدين الطبوبي، من مخاطر الفراغ الحكومي وتعطيل المؤسسات الحكومية في البلاد، مؤكداً الحرص على نهج الحوار مع جميع الأطراف. كما دعا الاتحاد، في بيان: «إلى التسريع بتعيين رئيس حكومةِ إنقاذ مصغّرة ومنسجمة تكون لها مهمّات محدّدة عاجلة واستثنائية وتلبّي الاستحقاقات الاجتماعية من توفير الشغل ومحاربة الفقر والتهميش، وتجابه باقتدار جائحة كوفيد-19».
وعلى رغم غياب أيّ موقف أميركي واضح مِن الحدث التونسي، أبدى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي بوب مينينديز، والعضو البارز في المجلس جيم ريش، «قلقهما البالغ» إزاء تزايد التوتّر والاضطرابات في هذا البلد. وأضافا، في بيان مشترك، أن على «الرئيس سعيّد العودة إلى الالتزام بالمبادئ الديموقراطية التي تدعم العلاقات الأميركية - التونسية، وعلى الجيش أن يلتزم بدوره في إطار ديموقراطية دستورية». من جانبها، وقّعت سبع منظّمات ونقابات تونسية (من بينها: «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين»، و«جمعية القضاة التونسيين»، و«الجمعية التونسية للمحامين الشبان»، و«الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات») بياناً عبّرت فيه عن ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة من أصحاب الكفاءات، ووضع خريطة طريق للخروج من الأزمة الراهنة. ودعت المنظمات، في بيانها، سعيّد إلى وضع خطّة عمل وفق أجندة واضحة ومحدَّدة في الزمن وبصفة تشاركية مع القوى المدنية، مؤكدة ضرورة احترام مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال السلطة القضائية، وعبّرت عن استنكارها لتدخّل عواصم أجنبية في الشأن الداخلي التونسي وفي سيادة الدولة.
في غضون ذلك، أفاد مسؤول في حركة «النهضة»، «رويترز»، بأن وزارة الداخلية وضعت القيادي البارز في الحزب والوزير السابق، أنور معروف (شغل منصب وزير تكنولوجيا الاتصال بين عامَي 2016 و2020)، قيد الإقامة الجبرية. ويُعدّ هذا الإجراء الأوّل ضدّ أحد قياديّي «النهضة» منذ إعلان سعيّد قراراته في 25 تموز الماضي. وأقال الرئيس، هذا الأسبوع، وزير تكنولوجيا الاتصال، فاضل كريم، قائلاً إنه لن يقبل أن تكون الوزارة موطئ قدم لأحزاب تريد السيطرة على قاعدة بيانات التونسيين أو الولوج إلى معطياتها الخاصة. وتحرّك سعيّد بسرعة للإشراف على وزارتَي الداخلية وتكنولوجيا الاتصال وعيّن وزيرين جديدين في الحقيبتين.