على مدى ثلاث سنوات من عمر التسوية التي اعتُقد أنها ستعيد المحافظة بكاملها إلى كنف الدولة، ظلّت درعا محافِظة على موقعها في أعلى لائحة المناطق التي تشهد توتّرات أمنية وقلاقل لا تنتهي. لكن في الأيام الأخيرة، برز بصيص أمل بدا معه وكأنّ الحكومة وجدت «الحلّ السحري» للهمّ الجنوبي، حيث تمّ التوصّل إلى اتفاق لتسوية أوضاع مخالفي التسوية أو غير المنخرطين فيها أصلاً. اتفاقٌ سرعان ما ظهرت العقبات في طريق تطبيقه، لتبدو مدينة درعا اليوم، وأجزاء واسعة من أريافها، أمام ساعات حاسمة: فإمّا تسوية جديدة تضبط أوضاعها، أو معركة يكرهها كلا الطرفان، لكنهما قد يجدان نفسيهما مجبرَين عليها
بعد نحو شهر على حصار الجيش السوري لأحياء أساسية في مدينة درعا تسيطر عليها فصائل إمّا خالفت بنود تسوية 2018، أو لم تنخرط فيها أصلاً، رضخت لجان التفاوض باسم المسلّحين، أو ما يُعرف بـ"اللجنة المركزية"، لمطالب الجيش السوري، ليتمّ التوصّل إلى اتفاق كان يُفترض أن يُنفَّذ على مراحل بدءاً من يوم السبت الفائت، لكنه تأخّر إلى اليوم التالي. وبحسب نسخة من الاتفاق، حصلت عليها "الأخبار"، فإنه يتمّ في اليوم الأول البدء بتسليم السلاح المتوسّط والخفيف. وفي اليوم الثاني، أي الإثنين، يتمّ إجراء تسويات لأوضاع مطلوبين يبلغ عددهم نحو 130 شخصاً على حاجر حيّ السراي. وفي اليوم الثالث، تدْخل قوة أمنية حكومية إلى درعا البلد، وتنتشر على حواجز متّفق عليها. وفي اليوم الرابع، تُفتح جميع الطرق المؤدّية إلى المدينة، وتُزال السواتر بشكل كامل. وتقول مصادر مقرّبة من "اللجنة المركزية"، لـ"الأخبار"، إن "الجانب الروسي وجّه المفاوضات باتجاه عودة كاملة للمؤسسات الحكومية السورية والجيش السوري إلى مدينة درعا مع ضمان سلامتهم"، وفي المقابل، قدّم الجيش وعوداً بـ"عدم اعتقال أيّ شخص لم يرتكب عمليات خطف أو اغتيالات"، لافتاً إلى أن "المخاوف لدى المركزية والفصائل تمثّلت بدخول قوات إيرانية أو لبنانية إلى درعا"، الأمر الذي نفته الجهات الحكومية.
وبيّنت المعطيات المرافقِة لسير عملية التفاوض، أن جزئية منع كلّ أشكال التظاهرات والشعارات المناهضة للسلطات السورية كانت حاضرة بقوّة، وهو ما ربطته "اللجنة المركزية" بـ"مدى جدّية الدولة السورية في فتح كامل الطرقات ورفع الحصار عن درعا البلد". وفي اليوم الأول، شهد مركز التسوية في حيّ المنشية رفع العلم السوري، وانطلقت عملية تسوية شاملة لأوضاع 183 مطلوباً، بينهم 10 عناصر من العسكريين الفارّين من الخدمة، من دون توقيف أيّ منهم. وبناءً على مسار اليومين الأوّلين، بدا التفاؤل الرسمي عالياً، حتى ذهب البعض إلى القول إن الحكومة وجدت الحلّ لكامل منطقة درعا، بل إن رئيس "لجنة المصالحة" في المحافظة، حسين الرفاعي، كشف، لـ"الأخبار"، عن "نيّة الجيش السوري التوجّه غرباً لفرض اتفاق تسوية جديد في طفس"، مضيفاً أن "محور شرق درعا سيكون أيضاً ضمن أولويات الحكومة لتثبيت اتفاقات جديدة". وصباح يوم الثلاثاء، بدأ الدخول الفعلي للقوات الحكومية إلى محيط درعا البلد تمهيداً لدخول أحيائها وفق ما ينصّ عليه الاتفاق. وبحسب ما يؤكد قائد شرطة المحافظة، العميد ضرار الدندل، لـ"الأخبار"، فإن "وحدات من الجيش قامت بتمشيط مزارع النخلة والشياح وتفتيشها بحثاً عن بقايا العبوات الناسفة، لضمان تأمين وصول العناصر الذين سيتمّ تمركزهم في النقاط ضمن البلد".
لا تقرّ المصادر الرسمية بفشل تنفيذ الاتفاق بل تعتبر ما حصل «خرقاً يمكن معالجته»


لكن، كما جرت العادة، لم يكتمل تنفيذ الاتفاق. والمشهد الذي كان من المُفترض أن يكون هادئاً، استحال صاخباً عصر الثلاثاء، حيث أعاد كلا الطرفين إلى مواقعهما السابقة، مع ترجيح التصعيد على التهدئة. إذ لم يكد يبدأ دخول الجيش إلى أحياء درعا البلد، حتى كمنت له مجموعة من المسلحين في أطراف حي البحار، وفي بناء المهندسين، وأطلقت النار على عناصره عند نقطة حاجز الكرك، وأوقعت فيهم إصابات عدّة، ما دفع الجيش الى الردّ على مصادر النيران، ثمّ التراجع إلى خارج المدينة، خشية وقوع المزيد من الإصابات. وفي هذا الإطار، يلفت الدندل، في حديث إلى "الأخبار"، إلى أن "وجهاء درعا البلد أخلّوا بالتزامهم بتسليم كامل السلاح المتوسّط والخفيف، ولم يُسلَّم إلّا جزء بسيط (...) وهذا ما ظهر جلياً من خلال استهداف مسلحين لنقطة حاجز الكرك أثناء القيام بنصبها بناءً على الاتفاق المبرم". ومنذ لحظة إطلاق النار وتعثّر إتمام تنفيذ الاتفاق، يحاول المسلحون الترويج لكون مَن دخل إلى درعا هم عناصر "الفرقة الرابعة" في الجيش، المدعومة بحسبهم من إيران، علماً أن الاتفاق ينصّ على دخول قوات "الفرقة 15"، كما يقولون. لكن مصادر رسمية توضح، لـ"الأخبار"، أن "الاتفاق نصّ على دخول الجيش، من دون تحديد قوات محدّدة، وهذا أمر منوط بقيادة الجيش فقط". وتعتبر المصادر أن "المسلّحين يحاولون استجداء دعم خارجيّ، عبر الإيحاء بأن إيران تريد السيطرة على درعا، وهي لعبة قديمة جديدة، لا تعدو كونها تزييفاً وتضليلاً".
ولا تقرّ المصادر الرسمية بفشل تنفيذ الاتفاق بشكل كامل، بل تعتبر ما حصل "خرقاً للاتفاق، يمكن معالجته بعدّة أساليب". وفي هذا السياق، عُقد مساء الثلاثاء، اجتماع جديد بين ضبّاط من الجيش السوري و"اللجنة المركزية"، في الملعب البلدي في المدينة. وبحسب الدندل "كانت حجج أعضاء اللجنة المركزية، بأنه قد حصلت اختلافات في وجهات النظر بين أعضاء لجنة درعا البلد أنفسهم، حيث بدأ بعضُهم بتخوين البعض الآخر، بالإضافة إلى وجود فئة من المجموعات المسلحة المتشددة (منتمية سابقاً إلى داعش) غير ملتزمة ببنود الاتفاق، وهذه المجموعات كانت السبب الرئيس في توتّر الأوضاع وعرقلة التنفيذ". ووفق مصادر مطّلعة على مسار المفاوضات، فإن الجيش عرض "ترحيل المجموعات المسلحة التي لم تقبل بتسوية أوضاعها، وتلك التي أطلقت النار على الجيش، باتجاه الشمال السوري، إلا أن لجنة درعا البلد رفضت ذلك، متذرّعة بحجج عديدة واهية". وهكذا انتهت مفاوضات ليل الثلاثاء بدون التوصّل إلى أي تفاهم. وصباح يوم أمس، شهدت درعا اشتباكات متقطّعة على أطراف "مخيّم درعا" بين مسلّحي المدينة والجيش، الذي استُهدفت سيارة عسكرية تابعة له في محيط ساحة بصرى في "درعا المحطّة". كما شهدت أحياء المدينة موجة نزوح إلى خارجها نحو الحدود مع الأردن.
وفي موازاة استمرار التحشيد العسكري للجيش السوري على أطراف أحياء درعا البلد، وارتفاع احتمالية الإقدام على عمل عسكري، عقد وفد روسي اجتماعاً مع قيادة "اللواء الثامن" التابع لـ"الفيلق الخامس"، وعدد من أعضاء "اللجان المركزية"، في قلعة مدينة بصرى الشام، ظهر أمس، في محاولة للتوصّل إلى اتفاق جديد. لكنّ المؤشرات الميدانية الأخيرة الآتية من المنطقة، أنبأت بعدم تحقّق أيّ تقدّم. إذ تابع الجيش السوري استهداف نقاط المسلحين بالرشاشات الثقيلة استكمالاً لاشتباكات الصباح، فيما استمرّت موجة نزوح المدنيين إلى خارج الأحياء. وأبلغت اللجنة الأمنية التابعة للجيش أهالي درعا البلد بإغلاق طريقَي السرايا وحي سجنة بشكل نهائي، اعتباراً من الساعة السادسة من مساء أمس، لتُغلَق بذلك جميع المنافذ إلى المدينة، ويعود الواقع إلى ما كان عليه قبل الاتفاق. ويؤكد قائد شرطة المحافظة أن "الدولة السورية والجهات الأمنية عملت بكلّ الإمكانات لتوفير كلّ مقوّمات نجاح تنفيذ الاتفاق، إلّا أن المجموعات المسلّحة الرافضة للاتفاق وغير الملتزمة به هي السبب وراء التوتر الحاصل". مع هذا، يعتقد مصدر حكومي في درعا، في حديثه إلى "الأخبار"، أنه "لا يمكن القول إن الاتفاق قد انتهى كلياً، بل يمكن اعتباره معلّقاً إلى حين التوصّل إلى اتفاق جديد في الساعات والأيام القليلة المقبلة، وإلا فالتوجّه لدى الجيش هو لشنّ حملة عسكرية لفرض السيطرة على أحياء درعا البلد بالقوّة".