تسعى الولايات المتحدة إلى انتزاع قبولٍ عراقي ما باحتلال أبدي لهذا البلد، بعد تغيير تسمية المهمّة الأميركية هناك إلى «قوّة استشارية» في الحرب ضدّ «داعش»، في ما يمثّل تحايلاً على مطلب الانسحاب، سيتمّ إعلانه اليوم رسمياً في لقاء جو بايدن - مصطفى الكاظمي. تحايلٌ يستهدف، على ما يبدو، «تسكيت» القوى المطالِبة بانسحاب كامل للاحتلال، فيما الغرض الحقيقي من إبقاء القوّات بتوصيفات أخرى، وفق ما تفضحه تصريحات المعارضة الجمهورية في الكونغرس، مواجهة إيران وحلفائها في العراق وسوريا. وهو الهدف الذي لا تتورّع قوى عراقية عن مجاراة واشنطن في العمل عليه، على أمل أن يساعدها ذلك في نزاعها السياسي مع حلفاء طهران
حصلت قوّات الاحتلال الأميركي للعراق على اسم جديد لها، هو "قوّة استشارية" في الحرب ضدّ تنظيم "داعش"، في محاولة ماكرة لتلطيف الوجه القبيح للاحتلال في عيون العراقيين، الذين يعانون الأمرّين هذه الأيام. هذا ما يمكن استشفافه من خلاصة المحادثات التقنية الأميركية - العراقية ضمن الحوار الاستراتيجي بين البلدين حول انسحاب القوّات القتالية الأميركية، والتي يُفترض أن يعلنها الرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي،لواشنطن، اليوم. مهامّ القوّة الجديدة تتضمّن تقديم الدعم الجوّي واللوجستي والاستشاري ومعلومات استخباراتية واستطلاعية للقوّات العراقية في حربها على تنظيم "داعش"، لكنّ ذلك التوصيف لا يعكس الحقيقة كاملة، فبيان "البنتاغون" عن المحادثات التقنية التي قادها عن الجانب العراقي مستشار الأمن القومي، قاسم الأعرجي، أشار إلى أن "الجانبين أكدا حاجة القوّات الأميركية إلى أن تتمكّن بأمان من دعم قوّات الأمن العراقية".
هذه العبارة الأخيرة - على رغم خُلوّ البيان من أيّ إشارة إلى إيران بالاسم - تشير إلى حاجة قوّات الاحتلال إلى حماية نفسها ممّا تعتبره واشنطن تهديداً تُمثّله طهران والفصائل المتحالفة معها في العراق. والتلميح هنا إلى التحدّي الجديد الذي ولّدته سلسلة هجمات بالطائرات المسيّرة على قواعد أميركية خلال الشهر الماضي. لكن ما لا تقوله الإدارة لعدم إحراج حلفائها العراقيين، تفضحه المعارضة الجمهورية التي تلوم بايدن حتى على "سحب القوّات القتالية"، ما دامت الفصائل المتحالفة مع طهران موجودة في العراق. وفي هذا الإطار، يعتبر زعيم الأقلّية في مجلس الشيوخ، ميتش مكونيل، أن "الوقت الراهن ليس هو الوقت المناسب لكي يتظاهر الأميركيون أو العراقيون بأن مهمّتنا المشتركة انتهت"، وذلك في ضوء استمرار وجود "داعش" في العراق وسوريا، وكذلك الفصائل الموالية لإيران.
على أيّ حال، لا يُلبّي مثل هذا التغيير في طبيعة المهمّة الأميركية متطلّبات قرار مجلس النواب العراقي بإخراج القوّات الأميركية من البلاد، والذي جرى التصويت عليه غداة اغتيال الشهيدَين القائدَين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في الثالث من كانون الثاني 2020. ويعكس التباين بين قرار مجلس النواب وما يجري التفاوض عليه حالياً، واقعاً قائماً عماده أن ليس جميع القوى العراقية تريد انسحاباً أميركياً تامّاً من البلاد، حتى في داخل ما يُسمّى "البيت الشيعي"، بل إن البعض يرغبون في بقاء نوع من الوجود الأميركي الدائم، من أجل إقامة "توازن" مع نفوذ طهران التي يرون أنها تدعم خصومهم السياسيين، خاصة في ظلّ اقتراب موعد الانتخابات المبكرة المقرّرة في العاشر من تشرين الأول المقبل، والتي إذا أرجئت، ستُجرى في موعدها الدوري في ربيع 2022. ولذلك، من المتوقّع أن يشهد العراق سجالاً حادّاً بعد عودة الكاظمي من واشنطن، بالنظر إلى استمرار وجود معارضة قوية لبقاء أيّ جندي أميركي في بلاد الرافدين.
الكثير من التفاصيل لا تزال غير معلَنة ومن ذلك عدد الجنود الذين سيبقون في العراق


وفي هذا السياق، يؤكد النائب عن "تحالف الفتح"، كريم عليوي، "رفض بقاء قوّات الاحتلال جملة وتفصيلاً". وإذ يعتبر، في حديث إلى "الأخبار"، أن "الحوار أمر ضروري ونحن نرحّب به"، فإنه يرى أن" بقاء القوّات الأميركية مصدر قلق مستمرّ، فالأميركيون يتدخّلون بشكل سافر في الشؤون العراقية وينتهكون سيادتنا. والمجتمع الدولي يعتبر العراق دولة محتلّة وليس دولة مستقلّة". ويلفت عليوي إلى "أننا في مجلس النواب أدلينا بدلونا، وتمّ التصويت على خروج القوات الأميركية من العراق، ولا يوجد أيّ قرار آخر. أمّا المفاوضات، فهي أمر طبيعي من أجل وضع آلية الانسحاب والإسراع به". في المقابل، لا يبدو موقف "تيار الحكمة الوطني" - الذي يتزعّمه عمار الحكيم -، مثلاً، بالحدّة نفسها، على رغم أنه يعكس تناغماً مع "تحالف الفتح" في بعض الأساسيات. ويقول عضو المكتب السياسي للتيار، فادي الشمّري، في حديث إلى "الأخبار"، إن "الحاجة إلى القوّات الأجنبية انتفت، والبرلمان العراقي قال كلمته في قراره التاريخي بإخراج القوّات الأجنبية من البلاد بعد الجريمة الرعناء التي قام بها الأميركي ضدّ ضيوف العراق وقائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس"، لكنه يوضح "أننا تَركنا تقدير أهمية وجود مدرّبين أو استشاريين ضمن إطار مهمّة التحالف الدولي، إلى الحكومة العراقية والقيادة العسكرية، على أن تكون هناك شفافية كاملة في ما يتعلّق بالأعداد والمعلومات وأماكن التواجد وقضايا أخرى أوضحنا فيها وجهة نظرنا للحكومة". ولا يخفي الشمّري دعم "الحكمة" لأن يكون ثمّة "تعاون أمني بين البلدين، شرط احترام سيادة العراق وعدم التدخّل في شؤونه الداخلية"، فضلاً عن تكثيف التعاون العلمي والاقتصادي والثقافي. ويُبدي رضى تيّاره عن أداء الوفد الحكومي العراقي في محادثات واشنطن، معتبراً أن الوفد ذهب إلى هناك وهو "مُحمّل بما ينسجم مع مطالبنا ومطالب شركائنا السياسيين. والمؤشّرات من هناك أن فريقنا المفاوض قد نجح في وضع قائمة الأولويات وتحديد موعد الانسحاب النهائي، وأغلب الظن سيكون في 31 كانون الأول من هذا العام. وإذا ما حصل ذلك فإنه سيكون انتصاراً كبيراً للعراق وللرؤية التي نحملها وأَقنعنا شركاءنا بها".
مع هذا، جاء موقف الكاظمي الذي أدلى بحديث إلى الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست"، ديفيد إغناتيوس، عشيّة زيارته لواشنطن، مختلفاً، إذ تحدّث صراحة عن استمرار الحاجة إلى "دعم في مجال الاستخبارات والتدريب وبناء القدرة والمشورة" من قِبَل الأميركيين. لكنّ الكثير من تفاصيل ما يجري على طاولة المحادثات لا تزال غير معلنة، ومن ذلك عدد الجنود الذين سيبقون في العراق، علماً أن العدد الحالي المُعلَن هو 5200 جندي. كما لم تتضمّن التسريبات أيّ كلمة عن القواعد الأميركية، وعلى رأسها قاعدة عين الأسد، والقاعدة العسكرية في مطار أربيل، والتي يقيم تحت جناحها مركز تجسّس إسرائيلي. أيضاً، ثمّة تساؤل حول ما إذا كان الأميركيون سيستمرّون في استغلال نزوع بعض القوى "الكردية" إلى الانفصال، على رغم فشل المشروع الانفصالي بعد الاستفتاء الذي جرى على استقلال "كردستان" في 25 أيلول 2017. باختصار، حتى الأميركيون لا يتحدّثون عن انسحاب، بل عن بقاء عدد من الجنود إلى أمد غير محدّد. كما يحرصون على توكيد الاختلاف بين حالتَي العراق وأفغانستان عند المقارنة بينهما؛ ففي الثانية تُنفّذ الولايات المتحدة انسحاباً لا يستثني إلّا بضع مئات من الجنود الذين تنحصر مهمّتهم في حماية السفارة الأميركية في كابول ومطار المدينة، بينما في حال العراق، تجري إعادة صياغة للدور، الذي سيتركّز في المرحلة المقبلة على ما تَعتبره واشنطن تهديداً تمثّله الطائرات المسيّرة، والتي تستند إلى تكنولوجيا متطوّرة إيرانية الصنع، يسعى الأميركيون للعثور على حلول لها.