ارتفعت كثيراً احتمالات تأجيل الانتخابات العراقية المبكرة المُقرّرة في العاشر من تشرين الأول المقبل، إلى موعد الانتخابات الدورية في ربيع عام 2022، وفق ما تعتقده مصادر عراقية مطّلعة، بعدما ولّد قرار زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، مقاطعة الانتخابات، إرباكاً كبيراً على الساحة السياسية العراقية. إرباكٌ رافقه انطباع بأن القرار الصدري إنما جاء لإبطال مفاعيل المناخ الذي ساد أخيراً إثر سلسلة الكوارث التي ضربت العراق (حرائق المستشفيات وانقطاعات الكهرباء)، وصبّ في خانة تحميل «التيّار الصدري» المسؤولية عن تلك الكوارث، نتيجة وجود مُمثّليه المعنيّين بالمرافق المنكوبة في الحكومة والإدارة. هذا المناخ جعل التيّار يشعر بنوع من «المظلومية»، كونه حركة جماهيرية لا تخضع في كلّ مفاصلها لهَرَمية في اتخاذ القرار، وبالتالي لا يصحّ تحميله مسؤولية ما حدث، حتى لو كان الوزراء أو المسؤولون المعنيّون محسوبين عليه، باعتبار أن الحكومة العراقية ائتلافية، بل توافقية، فضلاً عن أن الفساد ليس مسؤولية حكومة واحدة، بل عمره عقود طويلة، ويدخل بين أسبابه الاحتلال والديكتاتورية. ذلك ما يدافع به «الصدريون»، لكنهم يغفلون أن ما يواجهونه واحد من الأثمان التي يتعيّن على الحركات المماثلة أن تدفعها، وأنه لا يقاس بمدى استفادة التيّار من وضعيّته هذه، حيث يمكنه، وفق المنطق عينه، أن ينسب إلى نفسه إنجازات ليست بالكامل من صُنعه.وعليه، تَعتبر المصادر أن القرار الصدري، إذ يُقرأ في هذا السياق، لا يمكن أن يُمثّل قراراً نهائياً بمقاطعة آليات العمل السياسي، وعلى رأسها العمل البرلماني، سواءً أراد التيّار أن يكون في الحُكم أو في المعارضة، بل هو انسحاب مؤقّت بهدف إعادة تقييم وضعه وتنظيم جماهيره تمهيداً للعودة مرّة أخرى، بأمل أن يكون تحسَّن وضعه الانتخابي، بعد «التبرّؤ» من السلطة تماماً، والعمل من الأوساط الشعبية خلال الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الدورية. ويراهن الصدر، في ذلك، على الاستفادة من كون غالبية جمهوره تأتي من الفئات المهمّشة التي تسكن المناطق الفقيرة، كمدينة الصدر في بغداد، والتي تختزن الكمّ الأكبر من الغضب على الفساد وسوء الإدارة، حيث يمكن للعمل الشعبي أن يكون مؤثّراً إلى حدّ كبير. ومن هنا، تُحذّر المصادر من أنه إذا جرت الانتخابات في ظلّ مقاطعة الصدر، فستوصل حتماً إلى أزمة، لأنها ستدفع بالكتلة الشعبية الكبرى التي يمثّلها الرجل إلى الشارع، بدل أن تكون في البرلمان، مع ما في فوضوية الشارع من مخاطر، وخاصة في بلد مأزوم أصلاً كالعراق. ولذا، فإن قرار الصدر يُمثّل، بمعنى ما، مطالَبة غير مباشرة بتأجيل الانتخابات، التي كان هو أوّل الداعين إلى إجرائها، حين كان يعتقد بإمكانية تحقيق فوز واضح فيها، يُغيّر من خلاله وجه البلاد.
من النتائج المؤكّدة والأعمق أثراً لقرار الصدر، إعادة خلط التحالفات التي كانت قد قطعت أشواطاً كبيرة


اللافت للانتباه أن القرار جاء في لحظة حاسمة، عاكساً هامش المناورة الكبير الذي يتمتّع به الصدر، لكن دقّة اللحظة التي اتُّخذ فيها القرار، ومفاعليه السريعة، أظهرت احترافية سياسية عالية ليست من سمات هذا النوع من التيّارات، بما يدفع المصادر إلى التساؤل عمّا إذا كان الرجل قد تلقّى نصيحة من ما وراء الحدود، تأخذ في الاعتبار الأبعاد الإقليمية والدولية للواقع العراقي، خاصة أن الصدر يحظى بعلاقات متنوّعة، تجمع حتى بين متناقضات، مِِن مِثل إيران والسعودية. كذلك، ثمّة مناخات أشيعت عن تقارب «صدري» - أميركي، بعدما نجا الرجل من عقوبات فرضتها إدارة دونالد ترامب في عام 2019 على قادة فصائل عراقية، توازياً مع محاولة مسؤولين أميركيين، في ظلّ ترامب أيضاً، التعاون مع «الصدريين» عبر السفير العراقي في بريطانيا، جعفر محمد باقر الصدر، وهو صهر مقتدى.
من النتائج المؤكدة والأعمق أثراً لقرار الصدر، إعادة خلط التحالفات التي كانت قد قطعت أشواطاً كبيرة، ولا سيما ذلك الذي نَسجه الرجل نفسه، تمهيداً لإحداث انقلاب عبر الصناديق، يهيمن من خلاله على الحكومة المقبلة، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ومن أبرز مَن ضَمّ، «الحزب الديمقراطي الكردستاني». خُطّط لهذا التحالف أن ينازِل في الانتخابات المقبلة، تحالفاً آخر بقيادة «الحشد الشعبي» كان قد أُنجز هو الآخر تقريباً ويضمّ «الاتحاد الوطني الكردستاني»، لكن مشكلة الأوّل أنه واجه ضغطاً سعودياً على أطراف في «الوسط السُّنّي» للانسحاب منه. في المقابل، فإن استعدادات «الحشد» المتواصلة بمعزل عن المصير الذي ستؤول إليه الانتخابات، يواكبها تفعيل لدوره على المستوى الإقليمي، وهو ما يطرح احتمال استفادته في هذا الاستحقاق من خبرات حلفائه، تمهيداً ربّما لتحييده نفسه عن الزواريب الداخلية للسياسة العراقية.
الأيام والأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في ما يتعلّق بالوُجهة التي ستتّخذها التطورات في العراق. والرهانات عالية جداً؛ لكون هذا الصراع الذي يبدو صغيراً بين قوى سياسية محلية على مكاسب انتخابية، تتوقّف عليه أدوار قوى عالمية وإقليمية كبرى في البلاد، وخاصة الولايات المتحدة التي تُجري، هذه الأيام، محادثات مع العراقيين حول انسحاب قوّاتها الذي يريده العراقيون كاملاً، فيما تسعى هي إلى إبقائه على شكل قوة استشارية أزلية الوجود.