القاهرة | خلال دورة الانعقاد الأخيرة لمجلس النواب، قال الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، عبارته الشهيرة: "خليهم يتسلّوا"، في إشارة إلى المعارضة التي كانت تنتقد البرلمان، والتزوير الذي أطاح جميع المعارضين. العبارة الارتجالية التي عبَّرت، في حينه، عن تصديق النظام لتأثير ما يفعله، تكرّرت، أوّل من أمس، على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولكن بصيغة أخرى، حين توجّه للمصريين، قائلاً: "عيشوا حياتكم وبطّلوا هري"، تعليقاً على الاهتمام الشعبي بأزمة سدّ النهضة."الهري" باللغة المصرية المحكية، تعني كثرة الكلام من دون جدوى. صحيح أن السيسي استغلّ الفعالية الأولى التي يحضرها وسط حشد جماهيري، منذ مدّة، للارتجال، إلّا أنه عبّر، من خلال جملته المقتضبة، عن الطريقة التي ينظر فيها إلى الشعب المصري، بعدما وجّه رسائل مباشرة وأخرى غير مباشرة لأطراف ضالعين في أزمة سد النهضة، من بينهم روسيا والصين وإثيوبيا. وفي الرسائل الرسمية والتصريحات التي صدرت، قبل أسابيع، حول الأزمة، جرى تظهير التأييد الشعبي للرئيس في أيّ قرار يتّخذه في هذا السياق. لغة السيسي الواثقة، التي تتحدّث عن رحيله ومن بعده الجيش، إذا أصاب الضرر مصر، عبّرت عن قناعاته العسكرية التي يدير من خلالها البلاد. فالجنرال، الذي استقال من الجيش ليخوض الانتخابات الرئاسية، وهي محسومة له، يتعامل مع المصريين كجنود لديه، وليس كمواطنين من حقّهم المشاركة في الحياة السياسية، وإبداء الرأي الذي قد يتعارض مع قرارات السلطة، بل وانتقادها إذا لزم الأمر. هو لا يقبل ذلك حتّى من المقرّبين منه، الأمر الذي يفسّر عدم قدرته على العمل مع الكثير من الشخصيات المشهود لها بالكفاءة والنزاهة، نتيجة رفضها قراراته المفاجئة.
الحياة التي يرغبها السيسي للمصريين، عادية أو ربّما أقل من عادية. فالرئيس، الذي قضى على الطبقة المتوسّطة، هو نفسه الذي حرص على الاهتمام، شكلياً، بالطبقات الأقل فقراً، من خلال مبادرات وتسهيلات عدة تتمحور حول توفير سكن مناسب وخدمات بأسعار قليلة، مقارنة بالخدمات الخاصّة. لكنّ الرجل نفسه انتزع الكثير من الطبقة المتوسّطة، لتنحدر وتصبح أقل من متوسّطة، بسبب قراراته التي حمّلتها أعباءً أكبر من قدرتها، وجعلت مستوى معيشتها يتراجع بشدّة. أمّا الدعم الذي حصلت عليه الطبقات الفقيرة، فيتراجع تدريجاً، بسبب الزيادات المحدودة لقيمته، ورفعه عن الكهرباء والمحروقات وغيرها من الخدمات، التي ستُباع بالأسعار العالمية، خلال السنوات المقبلة، وفق خطّة الحكومة. حتى المباني، التي تقطنها العائلات، ستؤول للحكومة مستقبلاً، بحكم تحويل غالبيّتها إلى حقّ الانتفاع، وليس نظام التملّك.
لا يحاول النظام شرح الوضع للمواطنين، إلّا بالطريقة التي يريدها، ومن الزاوية التي تخدم مصلحته


لا يحتاج السيسي المواطنين إلّا على فترات. حتّى النظرة إليه تختلف بحسب هذه الفترات؛ فتارةً هو الشخص الواعي الذي يدرك ما يُحاك ضدّ بلاده من مؤامرات، بالتالي يخرج للتظاهر في مواجهة "أهل الشرّ"، كما يحب الرئيس أن يلقبّهم، وتارةً أخرى هو الشخص الذي لا يفهم، ولا يعي ما يحدث حوله، ولا يعرف كيف تُدار الدولة، بل لا يجب عليه أن يشتكي من قرارات زيادة الأسعار، وغيرها من القرارات التي تؤثّر سلباً في حياته. حتّى ممثّلوه في البرلمان عرضة للإسكات، وقد ظهر ذلك عندما وبّخ السيسي نائباً، بسبب محاولته إبداء اعتراضٍ على قرارٍ مرتبط بالأسعار. ولا يحاول النظام شرح الوضع للمواطنين، إلّا بالطريقة التي يريدها، ومن الزاوية التي تخدم مصلحته، وعبر إظهار أنه الأفضل والأقوى، خصوصاً لجهة المشاريع التي يتمّ تنفيذها. فإبراز مشاريع الطرق، وغيرها، يُنسب للرئيس وحده، بينما في الحقيقة، دفع كلفتها المواطن، بشكل مباشر، سواء عبر الرسوم، أو من خلال تحمّل الأعباء المالية الزائدة على جميع الخدمات لتسديد ديون الاقتراض.
السياسة، من وجهة نظر السيسي ونظامه، هي توجيه الشعب لتحقيق أهداف السلطة. وهذا الأمر يعكس، بوضوح، تصاعد دور الاستخبارات، ورجلها الأوّل اللواء عباس كامل، في الأمور الداخلية. ففي الوقت الذي كان يحتفي الرئيس المصري بمشاريع تحسين عددٍ من القرى، أوّل من أمس، وقف إلى جواره مدير الاستخبارات العامّة مع بعض رجال الأعمال، الذين أُجبروا على دفع ملايين الجنيهات، ليحصلوا في مقابلها على امتيازات عدة، من بينها عضويات في البرلمان، وتسهيلات لمشاريعهم، بالتعاون مع الجيش، وغيرها. تنفيذ قرارات السيسي وتوجيهاته من دون نقاش، هي سياسة يتّبعها جميع المسؤولين، حتى الذين يُفاجأون بتعليمات رئاسية على الهواء مباشرة، خلال المؤتمرات. هؤلاء يستجيبون بغضّ النظر عن التكلفة والتداعيات على الجودة، وهو ما يدفع إلى إعادة تأهيل عددٍ لا بأس به من المشاريع، بعد وقت قصير من افتتاحها.