منذ فازت حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، تعاملت إسرائيل مع قطاع غزة على أنه كيان معادٍ. حتى القيود التي أقرّها «بروتوكول باريس» على الاقتصاد الفلسطيني، تجاوزتها السياسات الإسرائيلية، لتفرض على القطاع أشكالاً متعدّدة ومتكاملة من الحصار، هدفت جميعها إلى إدخال المقاومة في حالة من الإشغال الدائم، تُغيّر عبرها الأولويات، من التحرير إلى كسر الحصار، ومن كسر الحصار إلى تحسين ظروفه. خمسة معابر اقتصادية كانت تربط غزة بالخارج، ويشكّل كلّ منها بوّابة لدخول نوع معيّن من البضائع والمواد الخام، أغلقتها إسرئيل بعد 29 كانون الثاني 2006، حيث آذن فوز المقاومة في الانتخابات آنذاك، بتغيّر النظم الاقتصادية في القطاع، من كونه جزءاً من أراضي السلطة المحكومة بـ«اتفاقية باريس» - التي تمثّل الشقّ الاقتصادي من «اتفاق أوسلو» المُوقَّع عام 1994 -، إلى كونه محكوماً من أوّل حكومة مقاومة شكّلتها حركة «حماس». هكذا، أُبقي فقط على معبر كرم أبو سالم، غير المؤهّل لاستقبال حاجات القطاع التجارية والاقتصادية، وفي إطار حالة «الطوارئ الأمنية» فقط، فيما كان تجريف البنى التحتية الاقتصادية لمعابر «كارني»، «صوفا»، «ناحل عوز»، «نتسانا»، «كوسفيم»، «إيرز»، في عام 2007، رسالة إسرائيلية واضحة بأن ما هو قادم مغاير لما مضى.في أعقاب ذلك، اتّخذ الحصار أشكالاً متدرّجة ومدروسة، بدءاً من تخفيف حالة الاكتناز المالي للسكّان والمؤسّسات الرسمية والفصائل، عبر مسارَين اثنين. تَمثّل المسار الأوّل في وقف حركة التحويلات المالية من الخارج إلى القطاع بشكل تدريجي، من خلال فرض قيود مشدّدة على الحوالات المالية، البنكية منها والمصرفية، والتي يأتي جزء منها عبر البنوك الرسمية، وآخر عبر خدمات نقل الأموال (ويسترن يونيون، مني جرام، إكسبرس مني). وعلى خطّ موازٍ، وتحديداً في عامَي 2007 و2008، تمّ تقييد دخول البضائع إلى غزة، ضمن ما عُرف حينها بـ«سياسة احتساب السعرات الحرارية»، بمعنى أن إسرائيل كانت تحسب ما يحتاجه سكّان القطاع من سعرات حرارية بشكل يومي لكي يبقوا على قيد الحياة، وتُدخل بناءً عليه قدراً محدوداً من السلع الأساسية (الطحين، اللبن، السكر، البقوليات، اللحوم، الفواكه)، وهو ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وفقدان معظم السلع، بحيث إنّك حتى لو كنت تملك سيولة مالية كبيرة، ستدخل المحلّات التجارية لتجد الأرفف فارغة من كلّ شيء.
مع اشتداد الحصار على القطاع، فُتحت الحدود المصرية في كانون الثاني 2008. وقد أحصت الأمم المتحدة، آنذاك، عبور مليون ونصف مليون إنسان، الحدود إلى مناطق سيناء، بهدف شراء المؤن والبضائع. وعلى نحو غير مدروس، أنفق سكّان القطاع، في التاريخ المذكور، قرابة مليارَي دولار بهدف توفير حاجاتهم المعيشية التي حُرموا منها لسنوات. ويُقدّر خبراء اقتصاديون أن تلك الواقعة ليست بريئة تماماً، إذ كان الهدف على ما يبدو تفريغ غزة من الاحتياطات المالية التي يكتنزها السكّان. وبعد عشرين يوماً من التواصل الاقتصادي الطارئ مع مصر، أغلقت القاهرة حدودها من جديد، فيما بدأت إسرائيل حينها مسلسلاً جديداً من الحصار، مع سماحها بدخول البضائع إلى القطاع على نحو شبه طبيعي، في مقابل تشديد قيودها على حركة نقل الأموال من الخارج. هنا، يوضح المصرفي محمد حرز الله أن الحوالات المالية كانت قبل 2008 غير محدودة بسقف، لكن بعد ذلك، قُيّدت بسقف 10 آلاف دولار للشخص الواحد، ثمّ خُفّضت إلى 5 آلاف، ثمّ إلى ألفَي دولار، ووصلت اليوم إلى حدّ أن المواطنين في القطاع ممنوعون من تسّم حوالات مالية تتجاوز الـ1000 دولار، حتى بوجود صلة قرابة بين المرسِل والمستقبِل من الدرجة الأولى (أخ أو أخت أو زوجة). هذه السياسات حرمت عدداً كبيراً من العائلات التي تعتاش على الأموال التي يرسلها المغتربون، من مصادر عيشها، ناهيك عن أنها تسبّبت بعرقلة عمل المؤسّسات الخيرية الأهلية، وتلك التابعة لفصائل المقاومة، ما ساهم في إدخال مصطلحات جديدة لتوصيف حالة فئات صارت تشكّل نسبة كبيرة من المجتمع، مِن مِثل «الفقر المدقع، العائلات الأشدّ فقراً».
اتّخذ الحصار أشكالاً متعدّدة ومتكاملة هدفت جميعها إلى إدخال المقاومة في حالة من الإشغال الدائم


أمّا الاتجاه الثاني من الحصار، فقد ضربت عبره إسرائيل الاقتصاد المحلّي الذي كان يشكّل واحداً من المصادر المالية للحكومة التي تديرها «حماس» في غزة، وأيضاً مصدر رزق للآلاف من العمال. إذ عرقلت دخول المواد الخام، في حين سمحت بتمرير صفقات تجارية كبيرة لمنتجات استهلاكية من الخارج، تنتجها مصانع القطاع بشكل وافر وبجودة مقبولة شعبياً، بالتوازي مع حرمان القطاع من تصدير فائض بضائعه إلى الخارج. كلّ ذلك ساهم في ترحيل أصحاب رؤوس الأموال إلى الخارج، وزيادة الإنفاق على المساعدات الإغاثية، ما أدّى تالياً إلى رفع مستوى البطالة إلى 80% من السكان. وبحسب الخبير الاقتصادي محمد أبو جياب، فقد تسبّبت تلك السياسات في تغيير نهج المانحين للقطاع، من التمويل التنموي الذي يساهم في صناعة واقع اقتصادي مستقرّ ومستدام عبر دعم المشاريع الإنتاجية، إلى التمويل الإغاثي. ويوضح أبو جياب، في حديثه إلى «الأخبار» أن «التمويل الإغاثي يُبقي الأزمة ويعالج تبعاتها، أي إذا أعطاك تستطيع أن تأكل وتعيش، وإذا تركك، تموت من الجوع، لأنك لا تمتلك القدرة على الاعتماد على ذاتك». ولم تتوقّف سياسات الحصار على منع دخول السلع والأموال إلى القطاع، إنما طاولت قطاعات خدمية مثل الكهرباء والمياه والوقود، حيث قصفت إسرائيل محطّة توليد الكهرباء الوحيدة (28/06/2006)، الأمر الذي انعكس على مختلف القطاعات الحيوية، مِن مِثل البنى التحتية والصرف الصحي وعمل المؤسّسات الحكومية الخدمية.
هذا المسلسل المتواصل إلى اليوم لم تنتجه إسرائيل وحدها، بل ساهمت فيه دول إقليمية ومؤسّسات دولية وحتى السلطة الفلسطينية تحت عنوان إنهاء الانقسام، فيما كان الهدف في الواقع تأليب الناس على حكومة المقاومة، التي أريد لها أن تقف بعد سنوات في مواجهة الشارع الذي يطالب بأدنى حقوقه المعيشية، بينما هي عاجزة عن توفيرها، وهكذا لا يتبقّى أمامها سوى القمع، الذي سيعمل على تعريتها شعبياً وصولاً إلى إسقاطها. إلّا أنه بعد سنوات طويلة على تفعيلها، لم تُحقّق سياسات الحصار أهدافها المرجوّة، بل ضاعفت النقمة الشعبية على المحاصِرين، ليتوصّل هؤلاء إلى قناعة بأن سياساتهم قد تؤثّر ليس على الحالة الأمنية الإسرائيلة فقط، إنما على مصير المنطقة ككلّ. فقد تخوّف المصريون، مثلاً، من ارتفاع مستويات التطرّف الفكري لدى شباب القطاع، الأمر الذي قد يدفعهم للانضمام إلى المجموعات الإرهابية التي تنشط في مناطق شبه جزيرة سيناء، ناهيك عن الخشية من حدوث انفجار سكّاني غير مضبوط باتجاه الأراضي المصرية. أمّا من جهة الأوروبيين، فقد ساهم الحصار في تعزيز فرضيات تدفّق اللجوء غير المرغوب فيه إلى أراضيهم. كلّ ذلك أدّى إلى تبنّي إسرائيل سياسة أعلنها وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، أفيغدور ليبرمان، فحواها: «أبقِ رأس الفلسطيني فوق سطح الماء»، بمعنى أن المحافظة على «عدوّ عاقل يمكن التفاهم معه»، أفضل من «تعدّد الأعداء» غير المضبوطين. سياسةٌ عكف الكيان العبري على الترويج لها عالمياً تحت ستار «مظلومية» مزعومة، مقابل «إرهاب» المقاومة التي تقصف دولة الاحتلال بالصواريخ، توازياً مع التسويق لحرصٍ مدّعى على سكّان القطاع، عبر القول إن المعابر مفتوحة أمام البضائع وحركة الأشخاص. وفي مقابل تلك الأكاذيب، أغلق «المجتمع الدولي» عيونه عن كلّ سياسات الحصار المالي والاقتصادي، ولم يفعل أكثر من مطالبة إسرائيل بتخفيف حدّة إجراءاتها. أمّا ما بعد «سيف القدس»، فقد أخذ الحصار منحى مغايراً، هدفه الرئيس تفريغ الإنجاز الفلسطيني من مضمونه، وكيّ الوعي الجمعي لحاضنة المقاومة، عبر تخويف ناسها من دفع أثمان من حقوقهم الحياتية، لقاء المشاركة في أيّ هَبّة ذات أهداف وطنية.