لا «ربيع فلسطينياً» في الضفة الغربية المحتلة. هذا ما خلصت إليه التقديرات الإسرائيلية لمستقبل الاحتجاجات التي أعقبت قتل الأجهزة الأمنية الفلسطينية للناشط الحقوقي، نزار بنات. هل يعني ذلك أن لا قلق إسرائيلياً؟ وأن عمليات القمع ستعيد الأمور إلى ما كانت عليه؟ من وجهة نظر تل أبيب، فإن الواقع مفتوح على سيناريوات لا يمكن التنبّؤ بها من الآن، وإن كانت تستبعد حدوث تغيير في أداء السلطة، في كلّ ما يتعلّق بالأمن الإسرائيلي. الثابت إلى الآن أن الاحتجاجات تشكّل مصدر قلق لإسرائيل، خصوصاً لناحية إمكانية تضرّر قدرة السلطة على فرض سيطرتها الأمنية في مدن الضفة، والتي تُعدّ واحداً من عوامل قدرة الكيان على تحقيق أمنه. تدرك تل أبيب أن قتل نزار بنات مثّل الشرارة التي أدّت إلى إطلاق احتجاجات في الشارع الفلسطيني، كانت مقوّماتها متوفّرة مسبقاً. ومن هنا، تعكف إسرائيل على دراسة الأسباب الفعلية للاحتجاجات وليس الشكلية منها، وتقدير ما سيأتي بعدها، من أجل تحقيق هدفين اثنين: تقليص التأثيرات السلبية للأحداث على السلطة وتالياً على إسرائيل؛ ومنع تكرار الاحتجاجات في المستقبل عبر منع مسبّباتها، وبالتالي الحيلولة دون بروز تهديد استراتيجي لقيادة السلطة ولدورها الوظيفي في خدمة الكيان. على أن هذا الاهتمام، النابع من قلق فعلي، لا تعكسه محدودية التعليقات الإسرائيلية، الرسمية والإعلامية، على الحدث، على رغم أن الإضرار برجالات السلطة يُعدّ إضراراً مباشراً بالأمن الإسرائيلي، وهو ما لا يتطلّب استدلالاً خاصاً. والظاهر أن تل أبيب تهدف، من وراء «اللاتعليق»، إلى تلافي إحراج السلطة على النحو الذي يمكن أن يقلّص قدرتها على مواجهة المحتجّين. ذلك أن التعليق الإسرائيلي بالدفاع عن السلطة سيرفع من مستوى دافعية المتظاهرين للمُضيّ في الاحتجاج، في خطأ تحرص تل أبيب على أن لا تقع فيه. مع هذا، لا يصعب تقدير ما يتمّ تناوله على طاولة القرار في إسرائيل، والذي يمكن تلخيصه بالآتي:
- واحد من أهمّ دوافع الاحتجاج، أداء السلطة الفلسطينية نفسها، إذ لم تَعُد السلطة تعبيراً عن هوية فلسطينية كما كان يأمل الشارع، بل باتت قرينة للاحتلال وحارسة لأسواره، الأمر الذي أفقدها شرعيتها، خاصة أنها تحوّلت، بشكل غير مسبوق وعلني، إلى ما يشبه ذراعاً أمنية إسرائيلية مغروسة داخل المدن الفلسطينية لخدمة الاحتلال وأمنه.
- فساد السلطة بمعظم رموزها ومسؤوليها السياسيين والأمنيين، وهو ما يتجلّى في طغيان منطق المحسوبيات وتوزيع «الغنائم» والصفقات المشبوهة الناهبة للحقّ الفلسطيني، من دون أي محاسبة أو خشية من الشارع، خاصة بعد أن بات قمع الحريات عادة متّبعة، والاختلاف في الرأي عمّا تمليه السلطة جريمة يحاسَب عليها بالسجن أو القتل بدم بارد كما حصل مع الناشط بنات. وفوق كلّ تلك الممارسات، جاء إلغاء انتخابات المجلس التشريعي بعد أن قدّرت قيادة السلطة خسارتها فيها (ليس لمصلحة خصومها فقط، إنما لمصلحة تيارات منافسة لها داخل البيت الواحد أيضاً)، ليُشعِر الفلسطينيين بانسداد الأفق تماماً.
تعتقد إسرائيل أن السلطة لا تزال تنجح في قمع الاحتجاجات، على رغم أن موجة الغضب لم تهدأ بعد


- التحوّل في تطلّعات الفلسطينيين، سواء في الضفة أو القدس، من رام الله، حيث رأس السلطة، إلى قطاع غزة، بعدما أدركوا بوعيهم الجمعي، أن السلطة فقدت أيّ تأثير لها في كلّ ما يتعلّق برمزهم الأول (لا لأنها عاجزة فقط، بل لأنها لا تريد أيضاً)، أي الحرم القدسي، وأن إسرائيل تمارس فيه ما تشاء من دون أي محاسبة. والواقع أن هذا «اليأس» سابق للمواجهة العسكرية الأخيرة بين الاحتلال وقطاع غزة، إذ كان الجمهور الفلسطيني مدركاً أن السلطة باتت في وادٍ، وقضاياه في وادٍ آخر، الأمر الذي نزع عنها صفة «الممثل الشرعي» لدى عامة الفلسطينيين، لكن من دون أن يوجّه تطلّعهم وآمالهم إلى مكان آخر، حتى جاءت معركة «سيف القدس»، حيث تصدّت فصائل غزة للدفاع عن القدس والمقدسيين، فكانت النتيجة: يأس فلسطيني من السلطة؛ وأمل في تحقيق المصالح وحمايتها عبر الفصائل.
كلّ تلك العوامل أسّست للانتفاضة ضدّ السلطة ورموزها، والتي أشعل شرارتها قتل الناشط نزار بنات، علماً أن الساحة الفلسطينية شهدت سابقاً الكثير من عمليات القتل المشابهة، لكنّ أياً منها لم تؤدّ إلى احتجاجات وصلت إلى حدّ المطالبة بإسقاط السلطة وقيادتها. من هنا، تنظر إسرائيل إلى قتل بنات كعامل مفجّر للاحتقان المتراكم، من دون أن يدفعها ذلك، أو أياً من رعاة السلطة خارج فلسطين، إلى العمل على فرملة توجّه رام الله نحو القمع.
لكن، هل تؤدي الاحتجاجات إلى تغيير في السلوك الإسرائيلي بما يفيد السلطة أمام شعبها؟ من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، وإن كان الترجيح أن لا يتغير الكثير على المدى المنظور. إذ إن إسرائيل تعتقد أن السلطة لا تزال تنجح في قمع الاحتجاجات، على رغم أن موجة الغضب لم تهدأ بعد. وعليه، فإذا كانت السلطة قادرة على القمع ومنع تكرار الاحتجاجات، أو منع تدحرجها إلى الأسوأ إن تجدّدت، فلن تندفع إسرائيل إلى التغيير، بل ستضع رهانها على السياسة القمعية التي تتبعها رام الله. مع ذلك، ستجبر الاحتجاجات إسرائيل على إجراء «عمليات تجميل» للسلطة بشكل ما، تماماً كما ستدفع الأخيرة إلى محاولة احتواء التبعات بأقلّ الخسائر الممكنة، والهدف هو تحسين المكانة المتدهورة لقيادة السلطة وأجهزتها الأمنية في الشارع الفلسطيني، لكنّ هذا «التجميل» يمثّل تحدّياً قد لا تقوى عليه تل أبيب نتيجة تجاذبات سياسييها وأحزابها في ساحتها الداخلية، وهي تجاذبات تمنعهم من اتخاذ أيّ بادرة باتجاه رام الله، حتى وإن كانت شكلية.