يكاد ما سُمِّي بـ«مسار أستانة» يدخل عالم النسيان. فعلى رغم أنه لا يزال يحظى بالحدّ الأدنى من الدعم من جانب أطرافه، إلا أن معظم الاتفاقات السابقة حول سوريا، ولا سيما في السنتَين الأخيرتين، كانت ثنائية بين روسيا وتركيا، مع تأثير أقلّ لإيران. وفي الآونة الأخيرة، استعادت «المسألة السورية» زخمها على إثر الغارات التي شنّتها طائرات روسية ضدّ مواقع لقادة تنظيمات متطرّفة في إدلب، ما أدّى إلى مقتل العديد منهم، وتالياً إلى استنفار أنقرة خشيةَ أن تكون تلك الغارات مقدِّمة لعمل عسكري سوري يهدف إلى تحرير ما أمكن من أراضٍ جديدة، أو على الأقلّ تحريك بنود «اتفاقية سوتشي» الموقّعة بين موسكو وأنقرة في الخامس من آذار 2020، وخصوصاً فتح الطرق الرئيسة بموجب ما تنصّ عليه الاتفاقية، والذي حال المسلّحون، مدعومين من تركيا، دون تحقيقه لغاية الآن. على هذه الخلفية، يَتوقّع مراقبون عسكريون سوريون أن تُسخَّن الجبهة في إدلب في الفترة المقبلة، في ظلّ استعدادات داخل المدينة لنقل قادة المسلحين وعائلاتهم إلى أماكن بعيدة عن خطّ الجبهة. وفي انتظار ما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات المعلَنة وغير المعلَنة، فإن شدّ الحبال التركي - الروسي يتواصل، وبوتيرة عالية، نتيجةَ «النهج الجديد» الذي يتبعه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، منذ انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، والذي يضع أنقرة أمام مغامرات ومخاطر جديدة في محيط إقليمي ودولي تزداد سخونته. ويتميّز الخط البياني التركي تجاه واشنطن، منذ انتخاب بايدن، بالصمت وتهدئة الأمور، بل وحتى تقديم التنازلات. وإذ امتنع إردوغان عن التصريح ضدّ الحليفة الأطلسية طوال هذه الفترة، فإنّما ضمن سياسة التقرّب إلى الإدارة الأميركية. وجاء الاتصال الأوّل بين الزعيمين عشيّة ذكرى الإبادة الأرمينية في 24 نيسان، حين أبلغ الرئيس الأميركي نظيره التركي عزمه على الاعتراف بالإبادة. وبعدما سادت توقّعات بأن يكون ردّ الفعل التركي في مسألة حسّاسة جدّاً كتلك، عنيفاً، تعامَل إردوغان مع الاعتراف الأميركي ببرودة استثنائية، معلّقاً آماله على اجتماعه مع بايدن في بروكسل، والذي عُقد منتصف الشهر الماضي. آنذاك، في وقت كانت فيه الأنظار تتركّز على الموضوعات الخلافية بين البلدين، ولا سيما مسألة شراء تركيا صواريخ «إس-400» الروسية، بدا أن الطرفين يميلان نحو التهدئة في المسائل الثنائية، من دون حلّ أيٍّ منها، مع بروز تحفّز تركي للتحرّك إقليمياً ودولياً في إطار الخطّة الأميركية الجديدة التي تستهدف محاصرة روسيا والصين وتضييق الخناق عليهما ما أمكن. وفي مقدِّمة تلك التحرّكات، يأتي توجّه أنقرة لتحلّ محلّ «حلف شمال الأطلسي» في حماية مطار كابول، وربّما مقرّات حكومية أفغانية أخرى في العاصمة، فضلاً عن تدريب الشرطة الأفغانية. وفي حين كان قرار «الأطلسي» الانسحاب الكلّي من أفغانستان موضع ترحيب روسي، إلّا أن قرار تركيا البقاء لحماية مطار كابول أثار استياء كلّ من روسيا والصين وإيران. وحتى لا تبدو تركيا وكأنها تقوم بوظيفة الوكيل عن «الأطلسي» في كابول، تقرَّر سحب القوات التركية من أفغانستان ضمن خطّة الانسحاب المشتركة للقوات الأجنبية، على أن تتّفق أنقرة بعد ذلك، مع الحكومة الأفغانية، على إرسال قوات لحماية المطار وتدريب الشرطة الأفغانية، فيبدو الأمر كما لو أنه دور تركي خالص لا علاقة له بـ«الأطلسي» والولايات المتحدة. ولا يُعرف، حتى الآن، موقف حركة «طالبان» إزاء هذا الإخراج، وهي التي أبلغت الجميع رفضها بقاء أيّ جندي «أطلسي»، ومنهم الأتراك، على الأراضي الأفغانية. وإذا كان الانزعاج الروسي، كما الإيراني، من الدور التركي في كابول مفهوماً، فإن الصين ترى فيه أيضاً خطوةً لمحاصرتها، ولا سيما أن لأفغانستان حدوداً مع الدولة الآسيوية، على مقربة من مقاطعة تسينغ يانغ المسلمة، والتي يشكّل سكانها الأويغور أحد خزّانات تصدير الإرهابيين إلى سوريا عبر تركيا.
يتميّز الخط البياني التركي تجاه واشنطن، منذ انتخاب بايدن، بالصمت وتهدئة الأمور، بل وحتى تقديم التنازلات


أمّا الخطوة التركية الثانية في إطار التماهي مع الدور الأميركي في العالم، فتتمثّل في المناورات الضخمة التي يجريها حلف «الناتو» منذ أيام في البحر الأسود، الذي تعتبره روسيا خطّاً أحمر. فهو كان، خلال الحرب الباردة، «بحيرة سوفياتية» تنتمي جميع دوله إلى «حلف وارسو»، فيما كانت تركيا البلد الأطلسي الوحيد المطلّ على هذا البحر، من دون أن تشكّل تهديداً للسوفيات. وكدولة أطلسية، لم تشارك تركيا في أيّ مناورات عسكرية، وهو ما استمرّ حتى عام 1997 عندما بدأت أولى المناورات هناك، وشملت بعض دول الحلف، قبل أن تتحوّل إلى تقليد سنوي. لكن تدريبات هذه السنة تميّزت بضخامتها ومشاركة أطراف لا تنتمي إلى البحر الأسود فيها، بل لا تنتمي إلى «الأطلسي»، من مثل إسرائيل واليابان والمغرب وكوريا الجنوبية، في رسالة إلى روسيا بأن الحلف ضدّها عالمي وليس محدوداً. وقد شاركت في المناورات التي تنتهي يوم السبت المقبل، 34 دولة، و32 سفينة، و40 طائرة، وخمسة آلاف جندي. واستدعى ذلك زيارة أجراها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى أنطاليا، للاجتماع مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو. ومع أن الطرفين تناولا الأوضاع في أكثر من منطقة، ومنها الوضع في إدلب، فإن الزيارة حملت رسالة استياء روسية إلى أنقرة. ولطالما اعتمدت تركيا لمواجهة ذلك التمدُّد «الأطلسي»، على «اتفاقية مونترو» لعام 1936 التي رسمت حدود الحركة في مضيقَي البوسفور والدردنيل. إذ إن الاتفاقية التي لا تزال قائمة، تحدّ من حركة الدول غير المتشاطئة على البحر الأسود، وتمنع أيّ تحرّكات عسكرية كبيرة لها، وتحظر على أيّ سفينة عسكرية تابعة لدولة «غير بحر أسودية»، ويزيد وزنها على 15 ألف طن، دخول البحر. لكن في ذروة الخلاف الروسي - الأوكراني، أخيراً، أعربت الولايات المتحدة عن انزعاجها من تلك القيود، وهو ما ربطه البعض بتصريحات سابقة لرئيس البرلمان التركي، مصطفى شنطوب، عن أن تركيا يمكنها أن تعدّل في الاتفاقية، الأمر الذي فُسّر على أنه رسالة تودّد تركية إلى الجانب الأميركي.
كذلك، تحوّل مشروع إردوغان لشقّ «قناة اسطنبول» بين البحر الأسود وبحر مرمرة إلى الغرب من مضيق البوسفور، هو الآخر، إلى مادة جدل في تركيا وفي العالم، في ظلّ تساؤلات عن الهدف من ورائه. وإضافة إلى الأسباب الداخلية وطموح إردوغان إلى مضاعفة فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2023، فإن القناة نفسها تطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت تؤثّر على «اتفاقية مونترو» لجهة إيجاد مخرج للولايات المتحدة للحضور في البحر الأسود من دون المرور بالاتفاقية. وعلى رغم أن الأتراك ينكرون أصلاً هذه الاحتمالات، إلّا أن خصوم الولايات المتحدة ينظرون بريبة إلى مشروع القناة، وبالتالي إلى السياسات «المتحوّرة» للرئيس التركي. وفي الإطار نفسه من الضغوط المستمرّة على روسيا، يأتي قرار تركيا بيعَ طائرات مسيّرة إلى كلّ من أوكرانيا وبولندا، وتكرار الرفض التركي لضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا.
إزاء ما تقدَّم، تبدو الساحة السورية أمام تطوّرات يُحتمل أن تفضي إلى اتفاقات جديدة على غرار اتفاق إردوغان – مايك بنس (نائب الرئيس الأميركي السابق) في تشرين الأوّل 2019، والذي فتح الباب أمام شرعنة عملية «نبع السلام» التي دخلت بموجبها تركيا إلى شمال شرق الفرات بين مدينتَي تل أبيض ورأس العين، حيث لا تزال مستقرّة. وفي إطار الغزل التركي - الأميركي المستجدّ، لا يستبعد مراقبون التوصّل إلى صفقة أميركية مع تركيا يوسّع الجيش التركي بموجبها احتلاله لمناطق في شمال شرق الفرات، وهو ما يثير مخاوف لدى روسيا قد تدفعها إلى قلب الطاولة على تركيا في إدلب، إنْ لم يتمّ تدارك الوضع بصورة سلمية.