بالتزامن مع استمرار الاشتباك التفاوضي بين المقاومة في قطاع غزة وكيان العدو، وفي ظلّ استمرار تبادل الرسائل النارية المنخفضة الوتيرة، في مرحلة ما بعد معركة «سيف القدس»، لم يكن تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، بتنفيذ «اجتياح برّي واسع إذا ما اقتضى الأمر»، مجرّد لجوء تقليدي متكرّر إلى سياسة التلويح بالخيارات العملياتية العدوانية، في مواجهة قطاع غزة تحديداً. فهو ينطوي على أكثر من رسالة إلى الخارج في مضمونه وسياقه وتوقيته، لكنه يرتبط أيضاً بمجموعة عناصر داخلية إسرائيلية بدءاً من مؤسسة القرار وصولاً إلى الجيش والجمهور.اختار بينت التلويح بالخيار البرّي، تحديداً، بعدما تبلور انطباع عام في الداخل الإسرائيلي وفي أوساط الجيش ولدى أعداء إسرائيل أيضاً، بأن القيادتين السياسية والعسكرية مرتدعتان عن الخيار البرّي الواسع في أيّ مواجهة عسكرية، خوفاً من الخسائر البشرية الكبيرة. وهو انطباع لم يتبلور بعد معركة «سيف القدس» فحسب، وإنما تَعزّز في أعقابها واتّخذ أبعاداً إضافية، خصوصاً أن العدو كان قد روّج لعقيدة قتالية تمثّل العملية البرّية ركيزة أساسية فيها. وكان هذا الارتداع عن الاجتياحات البرّية الواسعة بدأ يسلك مساراً تراكمياً، منذ ما بعد صدمة تجربة لبنان التي حفرت في وعي الجيش وقادته قناعة بأن كلّ اجتياح برّي سيتحولّ إلى مستنقع للجيش الإسرائيلي، وفرصة للمقاومة من أجل اصطياد جنوده، لتتعمّق هذه القناعة لاحقاً في المواجهات المتتالية ضدّ المقاومة في قطاع غزة، وتحديداً منذ عام 2008. أمّا في الجولة الأخيرة، فقد بدا واضحاً أن قيادة العدو لا تثق بسلاح البرّ أصلاً، الأمر الذي دفع رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، إلى الالتقاء بجنود ذلك السلاح في محاولة لاحتواء حالة الإحباط التي يعانونها، وتحفيزهم بالوعد بأن يكون لهم دور في مرحلة ما من مراحل المواجهة. ومَثلّت تلك «الفضيحة» امتداداً لما سبق أن تحدّث عنه الجيش قبل سنوات في وثيقة داخلية (الأخبار، السبت 9 شباط 2019)، حيث وُصفت حالة سلاح البرّ بأنها كارثية وسيّئة جدّاً، وأن السلاح المذكور لا يعمل، وأن القيادة العليا لا تعتمد عليه.
وتتمثّل خطورة هذه الصورة التي ترسّخت في الوعي الإسرائيلي العام، في أنها بمستوى يهدّد الأمن القومي الإسرائيلي، بخاصة أنه يسلبه ما كان يَفترض أنه إحدى أهمّ أدواته في الحسم العسكري والردع، وهو يمكن أن تتصاعد مفاعيله نحو سيناريوات أكثر دراماتيكية في المستقبل. وفي مواجهة هذا التحدّي الذي يقوِّض صورة الجيش القادر على «نقل المعركة إلى أرض العدو»، تحاول القيادة الإسرائيلية، برأسَيها السياسي والعسكري، معالجة ذلك الخلل الجوهري، وهو ما يندرج في إطاره تلويح بينت بالخيار البرّي. وتكمن خصوصية حديث بينت في أنه يأتي بعدما تَبيّن بالتجربة العملياتية، مرّة أخرى، خلال معركة «سيف القدس»، أن سلاح الجو وكلّ الأسلحة الدقيقة لم تنجح في حسم المعركة، ولا في إسكات الصواريخ ولا إخضاع المقاومة ولا إضعاف قدراتها. ولذا، فقد حاول بينت الإيحاء بأن لدى إسرائيل خيارات بديلة يمكن أن تلجأ إليها، وإن ارتدعت عنها سابقاً، هادفاً من وراء تهديده، أيضاً، إلى الضغط على الطرف الفلسطيني في سياق محادثات ما بعد المعركة، والتي تجري عبر وسطاء.
يحاول بينت إثبات قدرته على مواجهة التحديات واتخاذ قرارات دراماتيكية خلافاً لما روّجه نتنياهو


ويتزامن تهديد بينت مع محاولة العدو الإيحاء، عبر خطوات عملياتية، بأن المعادلة تَغيّرت، وأنه عازم على الذهاب حتى النهاية إن لم يتوفّر الأمن للمستوطنات الجنوبية. وهو ما تنبئ به الضربات العسكرية المدروسة والمضبوطة التي ينفّذها في مواجهة البالونات الحارقة. مع ذلك، فقد أقرّ بينت، ضمناً، بأن إسرائيل حرصت على تجنّب العملية البرّية نتيجة الخسائر التي ستتكبّدها بفعلها، بقوله: «مثلما لا نحبّ المعركة، فنحن لا نحبّ الاجتياح البرّي»، مستدركاً بـ»(أننا) إذا اعتقدنا أن أهداف المعركة تتطلّب مناورة (برية)، فلن نتردّد في تنفيذها، وستكون ضخمة وقوية». ومع أن أحداً لا يدّعي أن جيش العدو لا يملك قدرات هائلة على مستوى سلاح البرّ أيضاً، إلّا أن ما لا يستطيع تجاهله أو إنكاره أن إسرائيل تبذل كلّ جهودها لتجنّب هذه «الكأس المرّة»، التي قد تتجاوز خسائر تجرّعها قدرة المجتمع الإسرائيلي على التحمّل. ولذا، باتت المعادلة مقلوبة لدى مؤسسة القرار؛ فبدلاً من تحديد الأهداف التي يتطلّبها الأمن القومي الإسرائيلي، ثمّ تحديد الخيارات العملياتية لتحقيق تلك الأهداف، بما فيها الخيار البرّي، يتمّ اليوم وضع الأهداف على أساس أن لا تتطلّب الخيار البرّي الواسع، حتى لو فشل الخيار الجوّي والأسلحة الدقيقة في تحقيقها. وعلى رغم وجود اعتبارات جوهرية متّصلة بقواعد الاشتباك مع المقاومة في القطاع، في ما وراء خطاب بينت التهويلي، إلا أن هناك أيضاً خلفيات داخلية لا تقلّ أهمية. إذ يحاول رئيس الحكومة إثبات قدرته، على خلاف ما روَّج له نتنياهو، على مواجهة التحدّيات واتخاذ قرارات دراماتيكية، وهو هاجس سيظلّ يلاحقه ما بقي في هذا المنصب، وما دام شبح عودة نتنياهو حاضراً لديه ولدى أطراف حكومته.
في المقابل، تؤكد المقاومة في غزة، بمواقفها ورسائلها، أنها أبعد ما تكون عن التنازل عن مجموعة ثوابت تتّصل بسلاحها وبالعناوين الحياتية لسكّان القطاع. ومع أن العدو مضطر إلى الاستمرار في ممارسة الضغوط، جرّاء ضيق الخيارات أمامه ومحدوديتها وكلفتها العالية، إلّا أن الجولات السابقة أثبتت أن المقاومة لم تتراجع عن ثوابتها، فكيف عندما أصبحت أكثر تطوّراً وقدرة وخبرة، وبعدما أظهرت بالتجربة الملموسة المدى الذي يمكن أن تبلغه في حال تصاعد المواجهة العسكرية نحو سيناريوات أشدّ وأوسع مدى، وهو آخر ما تريده قيادة العدو.