بعدما شهدت الأسابيع القليلة الماضية استقطاباً حادّاً حول "الحشد الشعبي" شطَر القوى السياسية العراقية إلى شطرَين، جاءت الغارات الأميركية التي استهدفت الأحد الماضي قواعد لـ"الحشد" تؤوي مقاتلين يحاربون تنظيم "داعش" على الحدود السورية - العراقية، لتُعيد توحيد العراقيين بحكومتهم وقواهم السياسية على إدانة هذا العدوان. وبمعزل عن مدى صدقيّة الموقف المتقدّم، فإن تجدّد الاعتداءات الأميركية يولّد، بالفعل، إحراجاً لِمَن ظلّ حتى الآن يبرّر الوجود الأميركي بأيّ صيغة من الصيغ، حتى ولو على شكل قوة استشارية تحتاج إليها القوات المسلّحة العراقية. وفي انتظار الجولة الثانية من المحادثات الفنّية حول الانسحاب الأميركي، والتي عُقدت جولتها الأولى في مطلع حزيران، ويُنتظر أن تُستأنف بعد الانتخابات العراقية المقرّرة في تشرين الأول المقبل، يبدو أن الباب سيظلّ مفتوحاً على شدّ وجذب كبيرَين، يخشى الأميركيون ما يمكن أن يفضيا إليه، خصوصاً في ظلّ تطوّر نوعية الهجمات التي تستهدف مصالحهم في العراق.يتحدّث الأميركيون عن تطوّر مستمرّ يؤرّقهم في السلاح المستخدم في الهجمات على قواعدهم في العراق، والذي قد يمثّل، بحسب مفهومهم، تغييراً في قواعد الاشتباك لمصلحة القوى المناهضة لهم، ويُقرّون في الوقت نفسه بالعجز عن إيجاد علاج تقني له حتى الآن، خاصة أن المُسيّرات التي يجري إطلاقها عادة في الليل، تحلّق على ارتفاعات منفخضة، بحيث لا يمكن للرادارات الأميركية التقاطها، مثلما تلتقط الصواريخ والمقذوفات الأخرى، والتي تُعتبر الهجمات بها، التي كانت تُشنّ في السابق، مجرّد عمليات تحرّش، مقارنة بهجمات الأشهر القليلة الماضية التي استُخدمت فيها المسيّرات. هذا هو المبرّر، المُعلَن على الأقلّ، للغارات الأخيرة التي قالت وزارة الدفاع في واشنطن إنها استهدفت القواعد التي يستخدمها "الحشد" لإطلاق المسيّرات المتفجرة.
يتحدّث الأميركيون عن تطوّر مستمرّ يؤرّقهم في السلاح المستخدم في الهجمات على قواعدهم في العراق


وعليه، تَعتبر واشنطن ما يجري تصعيداً نوعياً للحملة ضدّها، وهي تبحث عن حلول له بالمعنى العسكري، بمعزل عما إذا كانت العمليات السياسية الجارية، سواءً داخل العراق أو في ما يتعلّق بالمفاوضات النووية مع إيران، يمكن أن تخفّف من حدّة هذه المواجهة أو تجد حلاً لها. وما أفصح عنه الأميركيون هو أن التقنيات التي يملكها المناوئون لهم في هذا البلد آخذة في التطور. ففي مرّتين على الأقلّ خلال الأشهر الثلاثة الماضية، استخدمت الفصائل في هجومَين ضدّ قاعدة عين الأسد في غرب الأنبار، وقاعدة حرير غرب أربيل، مسيّرات صغيرة محمّلة بالمتفجرات تغوص نحو الهدف وتنفجر داخله. ويذهب الأميركيون إلى حدّ القول إن إيران صمّمت تلك الأسلحة على نحو متعمّد، حتى لا تؤدي إلى خسائر بشرية أميركية يمكن أن تدفع إلى تصعيد متدحرج مع الولايات المتحدة. ولم يغب الهمّ الأميركي في العراق عن اللقاء الذي جمع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، مع نظيره الإسرائيلي مئير بن شبات، في 27 نيسان الماضي، حيث اتُّفق على تشكيل "مجموعة عمل مشتركة للتنسيق والتعاون في مواجهة خطر المسيّرات والصواريخ الدقيقة التي تصنّعها إيران"، وفق إعلان مسؤولين أميركيين وإسرائيليين. والجدير ذكره، هنا، أن من بين الأهداف التي طاولتها المسيّرات، هنغارات تؤوي طائرات أميركية متخصّصة من نوع "الحصادة أم كيو 9" التي استُخدمت في اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما في كانون الثاني من العام الماضي.
يكثّف الأميركيون، إذاً، جهودهم لإيجاد سبل لمواجهة هذا التهديد الذي ينسبونه إلى تكنولوجيا تُوفّرها "قوة القدس" التابعة للحرس الثوري الإيراني، وتُدخل باستمرار تحسينات جديدة عليها، تجعلها أكثر فاعلية وبكلفة قليلة. وتزعم واشنطن أن الفصائل الحليفة لإيران في العراق تملك الآن طائرات مُسيّرة من نوع "سي إي أس -04"، من صنع إيراني، سبق أن استخدمها "أنصار الله" في اليمن في هجماتهم ضدّ السعودية، وهي طائرة قادرة على إطلاق صواريخ والتحليق لمسافة 1200 حتى 1500 كيلومتر، إذا أرفقت بخزانات وقود، ويمكن لها أن تصل إلى وجهة مبرمجة عبر نظام التموضع العالمي (جي.بي.أس). كما يمكن إطلاقها من منصّات متحرّكة، حتى على قوارب في البحر، لتفادي رصدها وضربها في مواقعها. ويؤكد الحرس الثوري، من جهته، امتلاك إيران طائرات أبعد مدًى من تلك التي يتحدّث عنها الأميركيون والإسرائيليون، حيث أشار قائد "الحرس" اللواء حسين سلامي، قبل أيام قليلة، إلى أن بلاده لديها طائرات مُسيّرة يصل مداها إلى سبعة آلاف كيلومتر.