القاهرة | تحيي مصر ذكرى «30 يونيو»، هذه السنة، تحت عنوان «الجمهورية الجديدة»، مع قُرب نقل المقار الحكومية إلى العاصمة الإدارية في قلب الطريق الصحراوي الرابط بين القاهرة ومدنها. وبعد مضيّ ثماني سنوات على الاحتجاجات التي أطاحت حُكم جماعة «الإخوان المسلمين»، وأطلقت يد المؤسسة العسكرية النافذة، يحاول النظام المصري تصوير ما جرى في ذلك الحين على أنه شكّل «بدايةً الجمهورية الجديدة». على أن هناك طفرةً حقّقها نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في البنية التحتية، لكن المواطن هو مَن يدفع ثمنها؛ إذ كان الحدّ الأدنى للأجور، قبل عقدٍ من الآن، يبلغ 1200 جنيه، أو ما يعادل، في حينه، أكثر من 200 دولار، فيما يبلغ، راهناً، وبعد الزيادات المقرَّرة مع بداية السنة المالية، غداً، أقلّ من 180 دولاراً، أو ما يساوي نحو 2400 جنيه. فـ»الجمهورية الجديدة» لا تناسب الشريحة الأكبر من المصريين، والتي تضرّرت، بصورة كبيرة، من الإجراءات الاقتصادية، سواء تلك المتعلّقة بتحرير سعر الصرف، أم الرفع الكامل للدعم عن غالبية المحروقات، إلى جانب التحريك المستمرّ لأسعار الكهرباء والمياه لتصبح معادلة للأسعار العالمية تقريباً، في حين تقوم الدولة - كما كل دول العالم - بصرف رواتب المواطنين بالعملة المحلية.وفي حين يعتبر مؤيّدو «30 يونيو» أن ما جرى في ذلك الحين امتداد لـ»ثورة 25 يناير»، إلّا أن مَن عارضوا الرئيس الإسلامي الراحل محمد مرسي، احتجاجاً على تحريك بسيط في الأسعار بعد أشهر من تولّيه منصبه، وعارضوا كذلك قرضاً بقيمة تقلّ عن 6 مليارات دولار من «صندوق النقد الدولي»، هم أنفسهم مَن وافقوا وهلّلوا لإجراءات تفوق تلك الإجراءات بعشرات المرّات، بما فيها قروض بالمليارات ستُسدَّد على مدى عقود. وفي «الجمهورية الجديدة» التي بناها الرئيس المصري بعد «30 يونيو»، لا وجود لشرائح متعدّدة من المصريين، أي شرائح ينظر إليها النظام على اعتبارها تستحقّ العطف، وليس لكونها تستحقّ حياة أفضل. وما ترغب فيه «الجمهورية الجديدة» هو القضاء على أيٍّ من وسائل الرفاهية وتحصيل رسوم على كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة، أو حتى إزالة منازل ومصادرة أراضٍ تحت دعوى المنفعة العامة التي أضرّت الأثرياء قبل الفقراء. فالعدالة الاجتماعية التي يحاول النظام تطبيقها، ترتبط بالرغبة في إيجاد فرص عمل برواتب متدنيّة تمنح أصحابها القدرة على الاكتفاء بقوت يومهم فقط، من دون النظر إلى أيّ اعتبارات أخرى، مع وعود بعلاج مجّاني لا تتحقّق حتى في المنظومة الجديدة للتأمين الصحي، والتي لم تستطع الدولة تطبيقها لتوحيد أسعار الخدمات الطبية وإتاحة فرص العلاج بشكل متساوٍ للجميع، في وقت فُرضت فيه زيادات الأسعار على الجميع من دون استثناءات.
يتباهى النظام برفع الأسعار لتخفيض فاتورة الدعم التي يقول إنها أنهكت الدولة


صحيح أن النظام اعتمد طريقةً للحدّ من انحدار الأسرة الأشدّ فقراً وتضرّراً من إجراءاته، عبر توفير مساعدات مالية محدودة. لكن المشاريع والخطط المتتابعة تلتهم هذه المساعدات بشكل جذري. فبعد سنوات تباهت فيها الحكومة برفع أسعار الكهرباء بصورة أكبر على الشرائح الأكثر استخداماً لها، تُطبّق، مع بداية السنة المالية الجديدة، زيادات تصل إلى أكثر من 50% على الشرائح الاكثر فقراً، في حين لم توفّر الدولة مزيداً من المساعدات لهؤلاء.
جمهورية «30 يونيو» الجديدة التي تصدّت للعشوائيات وحوّلت عشرات المناطق الخطيرة إلى مناطق استثمارية ومأهولة بالسكّان، وفق آلية ضَمِنت للدولة تحقيق عوائد مالية طويلة الأجل، سواء عبر بيع جزء من الأراضي أو تنفيذ استثمارات عليها وعدم تمليك الشقق للمواطنين، هي نفسها التي قفزت بأسعار العقارات بصورة غير مسبوقة، إلى درجة جعلت تملُّك وحدة سكنية لمحدودي الدخل في مناطق متطرّفة في العاصمة، تصل إلى نحو 20 ألف دولار بالتقسيط. من جهتهم، حصل رجال الجيش والشرطة والقضاة على امتيازات غير مسبوقة، ليس فقط لدورهم في «30 يونيو» ومساعدتهم للنظام، ولكن بسبب التسهيلات والامتيازات التي باتوا يحصلون عليها سرّاً، ومن دون إعلانات، سواء تلك الخاصة بمشروعات الإسكان التي تخصّص لهم، أو حتى الرواتب والمكافآت الاستثنائية التي خلقت تفاوتاً كبيراً بين المحالين على التقاعد قبل 2015 وبعدها. وبينما يسعى النظام إلى تقليل الفجوة بين الهيئات القضائية، يوسع الفجوة بين الجيش والشرطة بالامتيازات التي تحصدها كل جهة. وإلى ذلك، يتباهي النظام برفع الأسعار لتخفيض فاتورة الدعم التي يقول إنها أنهكت الدولة؛ لكن، في المقابل، يخصّص ما يفوق ثلث الموازنة للقروض والديون التي نفذ من خلالها مشروعاته، في حين يتواصل أنين المواطنين في الشارع وشكواهم من تردّي الأوضاع، في ظلّ استمرار الإغلاق الكامل للحياة السياسية وتكبيل المعارضة لتكون في إطار مرجعية أمنية للنظام.