الخليل | يُعدّ قمع المعارضة أو الخصوم استراتيجية ثابتة تنتهجها السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها، لكنها دائماً ما تكثّف العمل عليها خلال فترات الهدوء و»اللاانتفاض». اقتصر القمع في بداية نشوء السلطة على حركتَي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» لأنهما إسلاميّتان وخارج إطار «منظّمة التحرير»، لكن سرعان ما امتدّ ليطاول نشطاء المعارضة من كلّ التيارات السياسية بما فيها حركة «فتح» نفسها، وأيضاً المستقلّون. أمّا آخر حلقات هذا المسلسل وأخطرها فهي جريمة اغتيال المعارض والناشط نزار بنات في الخليل.يرتبط نهج القمع الذي تعتمده السلطة، عضوياً، بـ»اتفاق أوسلو» الذي هو أساس وجودها، إذ كان القمع في البداية يستهدف مَن يقاوم العدو الإسرائيلي ويعارض «عملية السلام»، لكن اليوم أصبحت حتى الكلمة ممنوعة، ويمكن أن يواجهها الأمن بـ»مواسير حديدية» على رأس صاحبها لتقتله عند اعتقاله. ومع أنه ليس كلّ قتيل على يد السلطة معارضاً سياسياً بالضرورة، لكن قتله بحدّ ذاته جريمة وانتهاك لحقوق الإنسان. والمقصود هنا ليس نزار بنات طبعاً، بل عناصر محسوبون على حركة «فتح» تعرّضوا للقتل في السنوات الأخيرة في مخيم بلاطة وداخل البلدة القديمة في نابلس، وهؤلاء ليسوا معارضين سياسياً، لكنهم قُتلوا أثناء حملهم السلاح في وجه السلطة، وكان بإمكان الأخيرة اعتقالهم من دون تصفيتهم، من مثل أحمد حلاوة «أبو العز»، الذي قُتل ضرباً بعد اعتقال أمن السلطة له. عندما قُتل حلاوة، ثار الرأي العام، وغضبت نابلس لأن الرجل على رغم تزعّمه مجموعة تحمل السلاح، إلّا أنه محسوب على «فتح» وشخصية قيادية محلية في البلدة القديمة، والأمر الأهم أنه قُتل أثناء اعتقاله، وهو ما اعترف به محافظ نابلس آنذاك أكرم الرجوب، لكن ما لم يتوقّعه الرأي العام بعد سنوات أن يُقتل نزار بنات على رغم كونه لا يحمل سلاحاً ولا يملك سوى فكره ولسانه ليعبّر عن رأيه، و»بطريقة وحشية، بقضبان حديدية وهراوات». يوثّق مقطع فيديو قصير نُشر أمس على مواقع التواصل الاجتماعي، جانباً من حادثة اعتقال بنات، حيث يظهر فيه عدّة عناصر يحملون الشهيد في مركبة غير قانونية «مشطوبة» ــــ ليست مسجلة ولا مرخّصة وغير معروف صاحبها ــــ، ثمّ يخفون مواسير حديدية في صندوق المركبة الخلفي، وعندما يدفعون نزار إلى داخل المركبة يركله أحدهم بقدمه عدّة مرات لإدخاله.
تتعدّد أشكال قمع المعارضين والخصوم. فمثلاً، الحرمان من الوظيفة والفحص الأمني يُعدّ شكلاً من أشكاله، وهو موجود حتى الآن في كلّ المؤسسات الحكومية وكثير من المؤسسات الخاصة أو المجتمعية التي تقودها شخصيات مرتبطة بأمن السلطة، أي عندما تتقدّم كفلسطيني لوظيفة ما وتلتقي بلجنة المقابلة، يتدخّل جهاز أمن في السلطة في فحص ملفّك والسؤال عنك، فإذا كان لك ملفّ عند الأمن واعتُقلت سابقاً فالوظيفة بمثابة مجرّد حلم عابر، وإذا لم يكن لك ملفّ فهذا لا يعني حصولك على الوظيفة حتماً، إذ يستفسر أمن السلطة عنك لدى ضبّاطه ومصادره في منطقة سكناك، وبناءً عليه يكون قرار توظيفك حكومياً نافذاً أو لا. ويتّصل الفحص الأمني بوظائف أدقّ تحتاج إلى شهادة حسن سلوك، وأمن السلطة لا يمنحها للمعارضين في أحيان كثيرة، بل تجرى مساومات للفلسطيني مقابل حصوله على هذه الشهادة، وفي الوظيفة الحكومية قد يكون الفصل مصيرك إذا تمرّدْت أو قلْت رأيك بقوة، وهذا ما جرى مع مجموعة معلّمين قادت إضراباً مطلبياً وشاركت فيه وحدها، ونظّمت نفسها بعيداً عن اتحاد المعلمين، ومطالبها كانت حقوقية ومالية فقط وغير سياسية، لكن اتهمت السلطة والحكومة تلك المجموعة بأنها مدفوعة خارجياً وذات أجندات، وبناءً عليه تمّ فصل قسم منها والقسم الآخر أحيل إلى التقاعد القسري.
لكن التهديد والاستدعاء يُعدّان الأسلوبين الأكثر تداولاً في القاموس القمعي للسلطة، ولولا وجودهما لامتلأت سجونها بالمعتقلين. وفي حالة التهديد، يتمّ الاتصال هاتفياً بالمعارض أو الناشط، وإنذاره مباشرة بالاعتقال أو بالفصل من الوظيفة أو بالاستدعاء. كما يُستعمل الهاتف كبديل من ورقة الطلب للاستجواب، حيث يسمع المعنيّ العبارة الآتية: «مرحبا، معك الضابط، تفضّل لشرب القهوة ولمناقشة موضوع». وقد يكون التهديد غير مباشر، أي من جهة أمنية، لكن باسم مجهول أو من حساب وهمي عبر موقع التواصل أو من رقم خاص مجهول. أمّا الاستدعاء فهو الاستجواب، وفيه يتمّ الترغيب والترهيب بحسب الموقف، إذ قد يطلب أمن السلطة من الناشط المستدعى أن يعمل كمصدر أمن غير رسمي، أو يتمّ اعتقاله عند استدعائه بدلاً من إحضار قوة أمنية إلى بيته، وقد يكون الاستدعاء نفسه مقدّمة لتعب أكبر، من خلال طلب الأمن من الناشط أن يعود للمراجعة أو التحقيق مجدّداً خلال الأسابيع المقبلة بواقع مرّة كلّ أسبوع. وعندما ينشر المعارض أو الناشط منشورات تنتقد السلطة، فإن البيئة المحيطة به تتحكّم بمدى تعرّضه للتهديد أيضاً، وبحسب طبيعة جهاز الأمن الذي رصده. ففي أحيان كثيرة، يتلقّى الناشط اتصالاً من قريب له أو من ضابط أمن في الحيّ يطلب منه حذف المنشور، تارة بالترغيب وتارة أخرى بالترهيب.

الاغتيال والقتل
لا يقتصر مفهوم الاغتيال على التصفية الجسدية على رغم خطورتها، فالاغتيال قد يكون معنوياً أيضاً. يقول مصدر لـ»الأخبار» إن «هناك شخصيات من المعارضة ومع السلطة في آن واحد، تتعرّض للابتزاز والإسقاط والتهديد، عبر رصد فضائح عليها، وتتعمّد بعض أجهزة أمن السلطة تصوير فضائح لشبّان وفتيات، إمّا لكونهم معارضين بهدف إذلالهم وتحطيم صورتهم، أو من أجل إجبارهم على العمل مع السلطة كمصدر أمني سرّي وغير رسمي». على أن الأمر تجاوز اليوم مسألة الإسقاط، إذ مع التطوّر التكنولوجي، وتشكيل فرق إلكترونية أو «جيوش أمنية» للسلطة، لا يعود الابتزاز بحاجة إلى تصوير ومعدّات وخطط، بل تكفي رسالة «واتسآب» على إحدى المجموعات لتنطلق حملة ترهيب وتهديد ونشر لفضائح وشائعات عن شخصيات محدّدة، وهو ما تُخصّص له صفحات عبر مواقع التواصل وأيضاً مواقع تابعة لمخابرات السلطة، لكن بغطاء إخباري محلي.
النوع الآخر من الاغتيال هو التصفية الجسدية، وفي حالات كثيرة كان غير مقصود وبإمكان السلطة تجنّبه، لكنه حصل، كوفاة معتقلين تحت التعذيب أو بسبب مضاعفات التعذيب. محمود الجميل مثلاً، الذي كان من قادة «صقور فتح» برفقة الشهيد أحمد الطبوق في الانتفاضة الأولى، اعتُقل هو ورفيقه وآخرون بعد الانتفاضة بتهمة محاولة تفعيل تنظيم «صقور فتح» ومقاومة العدو الإسرائيلي مجدداً، إضافة إلى حيازة أسلحة. واعتُقل الجميل في 18 كانون الأول 1995 في سجن أريحا، وفي نهاية تموز 1996 نُقل إلى مقرّ الشرطة البحرية في نابلس للتحقيق، وفي الليلة نفسها تمّ تعذيبه بشدة وإدخاله إلى المستشفى، حيث فارق الحياة بعد ثلاثة أيام.
يُعدّ التهديد والاستدعاء الأسلوبَين الأكثر تداولاً في القاموس القمعي للسلطة، ولولا وجودهما لامتلأت سجونها بالمعتقلين


كما أن تاريخ السلطة سجّل عدداً من الضحايا المعارضين الذين قتلوا لأسباب غير التعذيب أو ليس داخل مراكز الاعتقال. والحديث عن القتل يطول، ليشمل التصفية من دون مبرر، أي في غير اشتباكات مسلحة مع السلطة، كما حدث في منتصف التسعينيات، حيث قُمعت مسيرات لحركتَي «الجهاد الإسلامي» و»حماس»، وقُتل عدة فلسطينيين على يد الأمن. وفي السنوات الأخيرة، كثّفت السلطة استخدام قنابل الصوت والغاز خلال قمع التظاهرات وفضّها في الضفة الغربية، وهذا الأسلوب بدأ بعد الانقسام عام 2007 وسيطرة «حماس» على غزة، وزيادة الدعم الأميركي لأمن السلطة، فيما تولى جهاز «الشرطة الخاصة» فضّ التظاهرات من خلال مهمّة ما يعرف بـ»مكافحة الشغب»، بالتزامن مع تدخّل أجهزة أمنية مختلفة في أحيان كثيرة، من مثل: المخابرات، الأمن الوقائي، الأمن الوطني، وحتى الاستخبارات العسكرية التي تختصّ بمساءلة الموظفين وجنود السلطة من العسكريين.

الزي المدني والتظاهرة المضادة
يُعدّ أسلوبا الزي المدني والتظاهرة المضادة من أكثر الأساليب رواجاً لدى السلطة الفلسطينية لقمع التظاهرات والمعارضة. ويوضح مصدر لـ»الأخبار» أن أمن السلطة استلهم الأسلوبين من تجارب الأنظمة العربية في قمع الاحتجاجات أو ما يعرف بـ»الربيع العربي». ويعتمد أسلوب الزيّ المدني على وجود عناصر أمن بزيّ مدني يندسّون بين المتظاهرين أو يهاجمونهم ويعتقلونهم ويعتدون عليهم، بهدف إسقاط المسؤولية القانونية عن أجهزة الأمن، لكن هذا الأسلوب فشل، ورغم ذلك كرّرت الأجهزة الأمنية اللجوء إليه مراراً، كما في ما عُرف بـ»عملية البيجامات» حيث ظهر عناصر أمن يرتدون ملابس رياضية أو «بيجامة» ويحملون هراوات للاعتداء على متظاهرين، وقبل أيام ظهروا يرتدون «كمامات» كي لا يكشفوا هوياتهم، لكن نشطاء وصفحات عبر مواقع التواصل سارعوا إلى كشف هوية عدد منهم.
وللتملّص من الملاحقات القانونية خارجياً وداخلياً، ومحاولة إقناع ما تبقّى من الرأي العام الفلسطيني، يلجأ أمن السلطة إلى أسلوب «التظاهرة المضادة» على رغم عدم جدواه الكبيرة، إذ ما يجري يشبه «موقعة الجمل» في الثورة المصرية لإسقاط حسني مبارك، حيث يتجمّع عناصر من «الفصيل الحاكم» وهو حركة «فتح» التي تقود السلطة، في تظاهرة مضادة لتظاهرة المعارضة، وهو ما استخدمه أمن السلطة في يومين متتاليين خلال تظاهرات رام الله المنددة باغتيال نزار بنات. وتتذرّع السلطة بوجود أطراف خارجية تدعم التظاهرات المندّدة باغتيال بنات، لكن هذه الحجة ليست جديدة. فحتى إضراب المعلمين مثلاً، استعملت فيه السلطة الذريعة ذاتها، وأيضاً عند كل تظاهرة أو وقفة تكون الشمّاعة جاهزة: «أجندات خارجية»، «أعوان الاحتلال»، «مصلحة الاحتلال في هذا الوقت»، «مدفوعين خارجياً مقابل مبالغ مالية»، لكن ما يجري على الأرض يوحي بعدم وجود جهة محدّدة خلف الحراك الشعبي، لأن الهتافات متنوعة ومتعدّدة، فيما المتظاهرون من تنظيمات وفصائل ومؤسّسات وحراكات مختلفة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا