عبَّر رئيس أركان جيش العدوّ، أفيف كوخافي، بدقّة عن التقدير الذي تتبنّاه المؤسسة العسكرية إزاء آفاق الوضع في قطاع غزة، فاعتبر أن «هناك فرصة معقولة لمواجهة عسكرية أخرى مع غزة في المستقبل القريب». ومن دون إغفال حقيقة أن أصل جهر كوخافي بموقفه خلال لقائه مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، ضمن زيارته لواشنطن، ينطوي على رسائل مدروسة وهادفة، فهو يعبّر أيضاً عن رؤية سائدة في مؤسّسات القرار السياسي والأمني. وعكست المفردات التي استخدمها كوخافي الطابع المهني لتقدير المؤسسة العسكرية، من دون أن يتعارض ذلك مع مساعي توظيف هذا التقدير سياسياً وردعياً. فهو تحدّث عن فرصة معقولة، وليس عن أمر مرجّح بدرجة كبيرة، كما أنه لم يستبعده، فضلاً عن أنه حدّد المدى الزمني لتوقّعاته بـ»المستقبل القريب».يستند هذا التوقع، كما يبدو، إلى متغيّرات يرصد العدوّ مؤشراتها ومعالمها، متّصلة بالعناوين الساخنة التي تشكّل محور الحراك السياسي حول قطاع غزة، والتي يمكن أن تسهم في تعزيز احتمال تَحقُّق المواجهة أو تراجعها. وفي السياق، يجدر تناول الأولويات التي استجدّت على برنامج المؤسستَيْن السياسية والأمنية في إسرائيل، بعد معركة «سيف القدس». كانت إسرائيل تطمح وتسعى إلى الحفاظ على هدوء الجبهة مع القطاع، في ظلّ حصار مُحكَم يهدف إلى تكريس الواقع القائم (بعدما فشلت في إخضاع المقاومة أو إسقاطها)، والتفرّغ لمواجهة التهديد المتصاعد في الشرق (إيران)، والشمال على الجهتَيْن السورية واللبنانية. لكن ما أرسته الجولة الأخيرة من نتائج لمصلحة المقاومة، دفع قيادة العدوّ إلى تركيز جهودها على محاولة منْع ترجمة تلك الإنجازات سياسياً، سواء في ما يتّصل بأولويات القطاع الحياتية والعمرانية أو بمجمل الساحة الفلسطينية، وأيضاً حرمان المقاومة من إرساء معادلة ردع مختلفة. واستناداً إلى ذلك، يمكن تفسير ارتفاع منسوب التهديدات على لسان القادة الإسرائيليين، من الاستخبارات إلى الجيش إلى المستوى السياسي والخبراء. ويلاحَظُ في الإطار المتقدّم، أن من أهمّ أولويات إسرائيل راهناً محاولة منْع تكريس صورة المقاومة في القطاع كقوّة نديّة في مواجهة جيش الاحتلال، لما لهذه الصورة من انعكاسات سلبية في مجالَيْ الردع والوعي، وتحديداً في وعي أعداء إسرائيل، لناحية نظرتهم إلى أنفسهم وإلى فعالية قدراتهم وإلى العدو أيضاً. ولعلّ من أبرز مَن أقرّوا بهذه الحقيقة، رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، اللواء عاموس يادلين، الذي لفت إلى أن «النهج الإسرائيلي كان التعامل مع حماس كعنوان، وعدم المسّ بها بقوّة، على أساس أن تكون مردوعة وضعيفة. (لكن) الذي حدث في الواقع هو أننا لم ننجح في ردعها ولا إضعافها، وهي تتعزّز من جولة إلى أخرى».
يحاول العدوّ منْع تكريس صورة المقاومة في غزة كقوّة نديّة في مواجهته


وفي محاولة لتعديل تلك الصورة، يجهد كيان العدوّ في إعادة المعادلات التي كانت سائدة قبل معركة «سيف القدس»، عبر الردّ الناري على إطلاق البالونات الحارقة، والتهديد بجولات حرب إضافية. وفي هذا السياق، يتقاطع كلام يادلين أيضاً مع التقدير الذي قدَّمه كوخافي، بأن المواجهة «يمكن أن تحدث في الأسابيع أو الأشهر المقبلة»، إذ تحاول إسرائيل حشْر المقاومة وسكان القطاع بين خيارَيْن: إما استمرار الوضع الراهن بما فيه الدمار الذي أحدثه الجيش خلال عدوانه الأخير في سياق معركة «سيف القدس»، أو تقديم تنازلات في سياق المفاوضات والقبول بإملاءات المعسكر العربي - الإسرائيلي – الأميركي المقابل. لكن القيادة الإسرائيلية تدرك أن «حماس»، وإنْ أظهرت مرونة في المفاوضات، إلّا أنها تلتزم بسقوف ستصطدم مع السقف الإسرائيلي – الأميركي. وعلى هذه الخلفية، يأتي الحديث عن احتمالات تَجدُّد المواجهة، والتي حاول رئيس الاستخبارات الحالي، اللواء أهارون حليفا، التغطية على ما تكشفه من فشل جيش العدوّ في المسّ بشكل جوهري بقدرات المقاومة في غزة، أو بإرادتها، حيث اعتبر أن العودة إلى التصعيد «ستكون بنظري استمراراً لمعركة حارس الأسوار. وإذا دعت الحاجة للعودة إلى توجيه ضربات ليوم أو يومين آخرين، فإني سأوصي بتوجيه ضربات شديدة جداً. وإذا أطلقوا قذائف صاروخية بعد نصف سنة، فسأعترف بأنّي أخطأت». يُلاحَظ في جميع المواقف التي تتناول المواجهة المقبلة المحتملة، أنها تَعِدُ بضربات أشدّ من السابق، في محاولة لردع المقاومة وتصعيد الضغط عليها لتحصيل تنازلات منها، لكنها تنطوي على إقرار بعجز الجيش عن إضعافها عسكرياً خلال معركة «سيف القدس».
من الواضح، إذاً، أن كلّ التقديرات والمواقف الإسرائيلية تنطلق من محاولة استخلاص العبر من جولة «سيف القدس»، وتفادي ارتكاب الخطأ الذي وقعت فيه الأجهزة السياسية والاستخبارية، عندما استندت إلى تقديرات مخالفة للواقع. وهو ما أقرّ به، رئيس الاستخبارات، حليفا، نفسه، الذي قال: «اعتقدتُ بأنهم سيطلقون صواريخ على عسقلان، وأشدود، وغلاف غزة، ولكن لم أعتقد بأنهم سيطلقون الصواريخ في اتجاه القدس». وبالتوازي مع كلّ هذا التهويل الكاشف عن أكثر من رسالة تتّصل بما يدور في أروقة القرار في كيان العدوّ، ومن ضمنها أن غزة فرضت وجودها ضمن أولويات القيادتَين السياسية والعسكرية، وأنه لا يمكن تجاهل مطالبها، يبدو أن العدوّ انتقل إلى مرحلة التسليم بالعجز عن منْع المقاومة من تعاظم قدراتها، فاعتبر حليفا أنه «لا علاقة بين التهدئة وتعاظم قوّة حماس. والعدوّ يعزّز قوّته في جميع الأحوال، وخلال القتال أيضاً». وبهدف تبرير الخيارات العملياتية التي قد تُعتمد في مواجهة القطاع، رأى رئيس الاستخبارات أن إسرائيل أمام خيارَيْن: «التهدئة أو إعادة احتلال القطاع». ويعني ذلك أنه لمَّا كان الخيار الثاني ينطوي على مخاطرة دراماتيكية ستؤدّي إلى تورّط الجيش الإسرائيلي في جبهة استنزاف ستكون لها تداعياتها العسكرية والسياسية، فضلاً عن أنها ستمثّل انحرافاً عن الاستراتيجية المعلَنة القائمة على التفرّغ للجبهات الأشدّ خطراً، يصبح تبنّي التهدئة الخيار الأقلّ كلفة، وإنْ كان يقوّض صورة الجيش العاجز عن حسم المواجهة مع المقاومة، أو إخضاعها. وفي ضوء ما تَقدّم، يمكن التقدير أيضاً أن العدوّ يخشى من أن ترى المقاومة في غزة في أولوياته الإقليمية ومحدودية خياراته العملياتية وسقفها الذي لا يستطيع تجاوزه، فرصةً للتمسّك بمطالبها وبمبدأ «النديّة» في الردّ الناري إذا ما اقتضت الحاجة.