يُكرّر أحد المقاومين الذين رافقناهم تغطية إحدى يديه بالأخرى، كلّما تصادف مروره من أمام الكاميرا. نسأله: لماذا؟، فيتهرّب من الإجابة أمام جمع من رفاقه، مومئاً بعينيه الظاهرتين من خلف اللثام إلى تحرّجه من هذا السؤال. كان مهدي (اسم مستعار) يخفي خاتم زواجه الذي لم يمضِ على ارتدائه سوى ستّة شهور؛ خوفاً من أن تكشفك العروس؟ نسأل، فيجيب ضاحكاً: «ليس تماماً، لكن السرّية واجبة من الناحية الأمنية»، ويضيف: «وأريح للراس...». قرابة عشرين مقاوماً لم يُمط أحدُ منهم اللثام عن وجهه طوال سبع ساعات من وجودنا معهم، باستثناء وقت شربهم للماء حيث أعطونا ظهورهم. ثمّة ضرورات أمنية يراعونها ما استطاعوا، لكنها لا تُسكت الفضول إلى معرفة ما تنطق به ملامح وجوههم لحظة مباغتتهم بأسئلة من خارج السياق. هم ليسوا استثناءً، كما أنهم ليسوا عيّنةً منتقاة بعناية من الشباب الذين قد تصادفهم في مساجد غزة وجامعاتها وحتى مقاهيها. أحد الضبّاط الميدانيين الذين التقينا بهم يعمل مهندساً، وآخر معلّماً للمرحلة الثانوية، وثالث بائعاً للخضار. جميعهم تحكي أصواتهم وعيونهم خوفاً كالذي عشناه. بالعودة إلى مهدي، الذي قرّر أن يخفي عن عروسه وأهله جميع التفاصيل المتعلّقة بعمله المقاوم، وأخذ منذ أربع سنوات قضاها في هذا الطريق الاحتياطات اللازمة كافة لذلك، هو يرى أن طريقه محسومة بواحد من خيارَين، أكثرهما ثقلاً على نفس والديه أن يُقتل وهما حيّان، يحضران جنازته وينزلانه التراب بأيديهما. يكمل حديثه وقد تمكّنت منه اللحظة فيبتلع ريقه: «فكرة الاستشهاد لا تغادر تفكيري، ومع أن هذه النهاية هي التي يتمنّاها كلّ مجاهد على مستواه الشخصي، لكن التفكير في ألم الفراق الذي يتركه لذويه وأحبابه يجعلنا نقتصد في تقديم فرضيات تَصوّره لأهلنا، لذا نتخفّى، ليس لأنهم لن يتقبّلوا ذلك، إنما لأننا سنجبرهم على أن يعيشوا هواجس الفقد القاسية طوال المدة التي نغيب فيها عن عيونهم، سواء كنا في أشغالنا الحياتية أم في عملنا المقاوم». لكن، إذا كانت حسابات العمل المقاوم معقّدة إلى هذه الدرجة، لماذا تدخلونه؟ يتنهّد الشاب الذي يَظهر أنه تجاوز الثلاثين من عمره، ثمّ يستأنف كلامه بطلاقة لغوية لافتة للانتباه: «لن أقول لك لأن تكليفنا الشرعي هو أن نسلك هذا الطريق، ولن أقول لك لأن المقدّسات أغلى من أرواحنا، لكنّني سأردّ بمنتهى الذاتية والفردية، لأنّني لا أريد لأبنائي الذين سيولد أحدهم بعد ثمانية شهور من اليوم، أن يعيشوا في بلاد ترسم إسرائيل مستقبلها، أنا أصنع مستقبل أولادي». مهدي، وهو أحد مقاومي وحدة المدفعية، يعمل مهندساً معمارياً، وكان قد أنهى الثانوية العامة بمعدّل 97%، ويعيش وضعاً مادياً ميسوراً كما قال. ترك هذه الملاحظات كلّها على هامش حديثه، ربّما لأنه أراد أن يشعرنا بالقدر الذي استطاع فيه أن يحقّق ذاته حتى قبل انضمامه إلى العمل المقاوم.
أصلاً فكرة المقاومة دافعها الخوف، لكن ليس الانصياع لهذا الخوف، لأن الانصياع له هو الجبن


في وحدة الدروع، التقينا بالمقاوم خالد (اسم مستعار)، وهو والد لطفلين. الشاب ذو البنية الرقيقة، واحد من المقاومين البارعين في استخدام سلاح «الماليوتكا»، وقد أسهب في شرحه عن مدى الدقة التي تتطلّبها الرماية بهذا السلاح: «هذا المقبض مثلاً يحتاج إلى أصابع عازف بيانو أو صائغ ذهب لكي تتحكّم عَبره بالمقذوف أثناء تحليقه بدقّة». بالنسبة إلى خالد، فإن عائلته على دراية كاملة بانتمائه إلى المقاومة، لكن ما يخفيه هو أنه يعمل في تخصّص الدروع، إذ إنه يقول لزوجته ووالديه إنه يعمل في سلاح الإشارة، لكي يعطيهم انطباعاً أكثر إثارة للطمأنينة، خصوصاً أن الخروج إلى العمل يتطلّب منه انقطاعاً تامّاً عن وسائل الاتصال. هل تخاف عائلتك عليك؟ نسأله، فيجيب: «بالتأكيد، وأنا أيضاً أخاف على نفسي». يفاجئنا الجواب الذي يكاد يخدش هالة البطولة التي نفترضها في عقولنا عمّن هم أمثاله، قبل أن يتابع: «الفكرة أن هناك مسؤولية تجاه نفسك، يجب أن لا تهدرها، هذه المسؤولية من الناحية العسكرية، لأن كلّ مقاوم هو مشروع عُمل على تدريبه طويلاً». أمّا من الناحية الشخصية، فإن أكثر ما كان يخشاه خالد هو أن يتعرّض بيته للقصف، ففكرة أن يدفع الجميع ثمن خياره تبدو صعبة التقبّل. هنا، يدخل محمود (اسم مستعار) إلى حوار الخوف الذي بدا أنه طال: «ربّما نحمل في الميدان خوفاً مضاعفاً، لكن التعامل مع الخوف هو الفارق، المقاوم يدفعه خوفه إلى تحدّي الاحتلال بوصفه المُسبّب لهذا الخوف». يكمل الشاب العشريني المتخرّج من قسم العلوم السياسية: «أصلاً فكرة المقاومة دافعها الخوف، لكن ليس الانصياع لهذا الخوف، لأن الانصياع له هو الجبن، بل الاعتراف بوجوده والتمرّد عليه والعمل على القضاء عليه».