قد يختلط عليك الأمر ابتداءً، إذ إن التصوّر الذي تحمله في ذهنك عن وحدات الإعلام العسكري التابعة للأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، هو بيئة عمل متواضعة، بإمكانيات فنّية بسيطة، وبمجهود ورؤية ذاتيَّين. لكن الدخول إلى مكتب الإعلام الحربي لـ"سرايا القدس"، الذراع العسكرية لـ"حركة الجهاد الإسلامي"، سيُغيّر تصوّرك عن طبيعة تلك الوحدات، التي تَطوّرت بشكل متزامن مع تطوّر إمكانيات المقاومة الميدانية. مكاتب متراصّة بعناية فائقة، والعشرات من المحرّرين المحاطين بعدد كبير من شاشات التلفزيون المُقسّمة إلى عدّة نوافذ، في كلّ منها قناة عبرية معيّنة. وفي أجهزة الحاسوب، تلاحظ أن الإعلاميين الشباب يتابعون مواقع إسرائيلية متنوّعة وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي. المكتب الذي زارته "الأخبار" خلال إعداد هذا التقرير، هو واحد من مجموعة مكاتب فرعية موزّعة في محافظات القطاع. أمّا ديسك التحرير فهو عبارة عن وحدة رصد ومتابعة للإعلام الإسرائيلي. تتبدّى على وجوهنا الدهشة، فيُعلّق أبو أحمد، وهو مسؤول هذه الوحدة، متسائلاً: "تُشبه ديسكات التحرير في وكالاتكم؟"، فنجيب: "بل تَفوق كثيراً منها ترتيباً". يقول الرجل الذي يوحي صوته بأنه تجاوز أربعينيات العمر: "هؤلاء الشباب تلقّوا عدداً كبيراً من دورات التحرير والترجمة. يجيد الكثيرون منهم اللغة العبرية، حديثاً وكتابة. ويتخطّى دورهم جانب المتابعة الإعلامية للإعلام الإسرائيلي، إلى أدوار أكثر أهمية، تتعلّق بجمع المعلومات ورصد الحالة النفسية للمجتمع الإسرائيلي خلال المواجهة". الوصول إلى هذا المستوى الاحترافي من العمل، استغرق بكلّ تأكيد سنوات من الدراسة الأكاديمية والتدريب المتعدّد المستويات والمناهج. وإلى جانب ديسك التحرير والمتابعة العبرية، صالة أخرى مشابهة، لكن الحائط يزدحم بالعديد من الشاشات التي تعرض أهمّ القنوات العربية والإنجليزية. "لا نتابع الإعلام العبري فقط، لكوننا نعلم أنه مسيّس ومسيطَر عليه من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بل نتخطّاه إلى متابعة صفحات المستوطنين الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعليقاتهم وتفاعلهم مع رواية جيشهم ومع ضربات المقاومة"، يضيف أبو أحمد الذي يبدي قدراً كبيراً من الإحاطة بمجتمع الاحتلال، وحتى بالخلفيات السياسية لكلّ مؤسسة إعلامية إسرائيلية. ويتابع: "نقدّم بشكل مستمرّ محدّدات لشكل الرسائل الإعلامية التي تبثّها السرايا، وأيضاً توقيت بثّها بما يحقّق أكبر مستويات التأثير على الجبهة الداخلية للاحتلال".
الوصول إلى هذا المستوى الاحترافي استغرق سنوات من الدراسة والتدريب المتعدّد المستويات والمناهج


في داخل مكتب الإعلام الحربي أيضاً، العديد من الاستوديوات المعزولة، وغرف المونتاج والتحرير المرئي، المجهّزة بأحدث المعدّات الفنية، إلى جانب كاميرات التصوير الحديثة، والإضاءة، وأجهزة المونتاج الاحترافية. يقول ضابط الإعلام الحربي الميداني، أبو الوليد: "نحن ندرك خصوصية الصورة ودورها وتأثيرها النفسي. لذلك، نحرص على تقديمها بأفضل جودة متاحة، وبأعلى المستويات الاحترافية". يضيف الضابط الشاب: "الأمر لا يتعلّق فقط بما نريد أن نقنع به الجمهور الإسرائيلي وقيادة الجيش بعنايتنا الفائقة بالتفاصيل الفنّية حتى خلال الحرب، ومدى الراحة النفسية التي تعمل بها طواقمنا، بل إن دور الإبهار البصري مهمّ بالنسبة إلى جمهور المقاومة، الذي توفّر له هذه الرسائل رافعة نفسية ومعنوية كبيرة، تنعكس على صمود الشارع الذي يتحمّل القدر الأكبر من ضغط الحرب وتكلفتها البشرية والمادّية".
يسهب أبو الوليد في شرح الدور الذي أدّته الكاميرا في الميدان، حيث بدا واضحاً ما أولته المقاومة من اهتمام لحضور الصورة. رافقت الكاميرا المقاومين في وحدات المدفعية والصاروخية والدروع، ووثّقت بالعشرات من المقاطع ذات الجودة الفائقة، عمليات الاستهداف. ولعلّ أكثر مشهد انعكس على معنويات الجمهور، كان استهداف جيب المخابرات الإسرائيلي على الحدود الشرقية لشمال قطاع غزة بـ"الكورنيت"، ذلك المشهد الاحترافي الذي بعث بالعديد من الرسائل عن مدى سيطرة المقاومة على عناصر الميدان، وفشل أسلوب الصدمة النارية الذي تتبعه الوسائط العسكرية الإسرائيلية في التأثير على ثبات المقاومين.

ساعة البهاء
واحد من الأساليب النفسية المهمّة التي اتبعتها المقاومة في "سيف القدس"، هو تحديد ساعة إطلاق الصواريخ. بالنسبة إلى "السرايا"، فإن التقليد الذي حفظه الشارع الغزّي كما مجتمع الاحتلال، هو الضرب في "تاسعة البهاء"، أي التوقيت الذي قصف فيه قائد لواء الشمال في سرايا القدس، بهاء أبو العطا، مستوطنة "سديروت" المحاذية للقطاع بصلية صاروخية أثناء حفل انتخابي أقامه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، لجمهوره في 19 أيلول 2019. بعد اغتيال أبو العطا، أصبحت التاسعة هي توقيت "السرايا" بامتياز. وفي الجولة الأخيرة، حضرت تلك الساعة بشكل يومي، حتى إن الشارع الغزّي كان يترقّبها من شرفات المنازل بالاحتفاء والتكبير. بالنسبة إلى "السرايا"، فإن تحديد ساعات الإغراق الصاروخي يتجاوز الأثر المعنوي لدى جمهور المقاومة، إلى رسائل تعكس حالة الاقتدار والتمكّن. يقول أبو الوليد: "تحديد ساعات الكثافة الصاروخية كان يمثّل تحدّياً ودليلاً على إثبات فشل منظومة القبّة الحديدية التي لديها علم مسبق بلحظة الصفر، وهي تفشل في التصدّي للرشقات الصاروخية. هذا الأمر أسهم في كسر غرور القوة التي يتباهى بها الجيش الإسرائيلي، وأيضاً، كان يقدّم دليلاً يومياً على سلامة مخزون المقاومة الصاروخي الذي يحرص الاحتلال على بثّ مزاعم تدمير قدر كبير منه في كلّ تصريح يَعقب الغارات الحربية".