لم تنتهِ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. كانت المواجهة الأخيرة مقدّمة لما سيليها، إذ لا يمكن لتل أبيب قبول النتيجة كما هي، بما تحويه من تهديدات لم تعد تقتصر على الساحة الغزّية فحسب، خصوصاً في ظلّ إصرار فصائل المقاومة على التمسّك بفُرص الخروج من معادلة "الغذاء مقابل الهدوء"، وإن كان الثمن تجدُّد العمليات العسكرية. من الآن وحتى بدء المواجهة المقبلة، يدير الطرفان حرباً غير عسكرية، يأمل كلّ منهما أن يَتحقّق له ما يريد من خلالها. لكن المهمّة صعبة، وربّما متعذّرة أيضاً؛ إذ إن الحدّ الأقصى الذي يمكن لإسرائيل أن تتنازل وصولاً إليه، لا يبلغ الحدّ الأدنى الذي يمكن أن يقبل به الفلسطينيون. وعلى أيّ حال، تكاد إسرائيل تكون محكومة بجولة قتال جديدة، تتطلّع إلى بلوغ أكثر من فائدة من ورائها، ليست كلّها مرتبطة بقطاع غزة، على أهمية تموضع القطاع في سلّم الأولويات الأمنية الإسرائيلية. وفي الوقت المستقطع، يعمل الكيان العبري على تحقيق الجهوزية الاستخبارية والعسكرية اللازمة للمواجهة المقبلة، مع الرهان على أن تكون هذه المرّة مغايرة لما سبقها، بما يشمل الاستعداد لخوض مواجهة أقسى وأكثر إيلاماً للجانب الفلسطيني، وتعزيز الدفاع الإيجابي والسلبي في مستوطنات إسرائيل ومدنها وصولاً إلى أقصى الشمال والجنوب، وإدخال "شيء من الجرأة" للتوغّل برّياً داخل القطاع لزوم المعركة والأهداف المرصودة لها، فضلاً عن ترميم بنك الأهداف سعياً لعدم تكرار الأخطاء السابقة.على أن السعي العلني إلى تحقيق الجهوزية العسكرية، والذي ترافقه تأكيدات حول حتمية تلك المهمّة وتعذّر تجنّبها وأنها على رأس سلّم أولويات الأمن الإسرائيلي في هذه المرحلة، لا يهدف فقط إلى تخويف غزة وردعها، يل يرمي إلى تعزيز موقف تل أبيب ما قبل المواجهة، في أكثر من مستوى واتجاه. فهو مُوجّه، أيضاً، إلى "الوسطاء"، سواءً في القاهرة حيث تجري عمليات التفاوض، أو في واشنطن التي تضغط في اتجاه إيجاد "تسوية ما" تكفل هدوءاً طويل الأمد، مع تباين بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي في شأن الثمن الذي يمكن دفعه للفلسطينيين لقاء هذا الهدوء. لكن، هل باستطاعة تل أبيب، بالفعل، بلوغ نتيجة المواجهة من دون خوضها ودفع أثمانها، علماً أنه يتعذّر على الجانب الفلسطيني القبول بما يُعرض عليه من مقترحات تستهدف انتزاع تنازلات منه بالتفاوض؟ هنا تحديداً يكمن واحد من أهمّ مبتنيات ترجيح جولة جديدة، ولا سيما أن ما آلت إليه الجولة السابقة سيّئ جدّاً لإسرائيل، ولا يمكنها التعايش معه والاكتفاء باحتوائه فحسب، وفي ما يلي أبرز وجوهه:
- تمدُّد وظيفة سلاح حركتَي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من ساحة غزة وقضاياها، إلى الساحة الفلسطينية الأوسع، تأثيراً وتأثّراً وحضوراً ومكانة، على حساب الوكيل الفلسطيني، أي السلطة، التي تراجعت مكانتها كثيراً، الأمر الذي يضرّ بإسرائيل وأمنها.
- توجّه فصائل المقاومة في غزة نحو إدارة الظهر لمعادلة "الهدوء مقابل الغذاء"، وتطلّعها إلى معادلة أشمل وأكثر امتداداً، بما يوازن حضورها ومكانتها في وعي الفلسطينيين في الضفة والقدس وربّما أيضاً ما وراءهما، الأمر الذي يناقض ما عملت عليه إسرائيل طويلاً، لناحية حصر تطلّعات غزة بذاتها: تخفيف الحصار مقابل الهدوء التامّ.
المعادلة المطروحة هي إسقاط سلاح غزة مقابل عطاءات اقتصادية يُحظر على الفصائل الاستفادة منها


- التقييم البالغ السلبية لدى الجمهور الإسرائيلي لأداء جيشه في المواجهة الأخيرة، مع اعتقاد سائد لدى الأغلبية بأن حركة "حماس" خرجت منتصرة من المواجهة، وفق ما تُظهره استطلاعات الرأي. وهذا التقييم لا يقتصر على الجمهور فقط، بل يشمل أيضاً الجيش الإسرائيلي، الذي يكفي ما تسرّب من تقييمه لفهم الموقف: خروج الجيش من المواجهة بلا نتائج ملموسة، مع أضرار كبيرة جدّاً في أكثر من اتجاه، ليس على المديين المتوسّط والبعيد فقط، بل على المدى القصير أيضاً.
- كون مجريات الحرب ونتائجها موضع اهتمام ومراقبة وتتبّع، مع استخلاص دروس وعبر، لدى جهات التهديد الأخرى في الساحات القريبة والبعيدة عن الحدود الإسرائيلية، أي في لبنان وسوريا وما وراءهما من مركّبات محور المقاومة، وهي ساحات لا تقارَن إمكاناتها المادّية العسكرية وقدرتها على الإيذاء، بما لدى الفصائل في غزة.
- إدراك صاحب القرار في تل أبيب أن نتيجة المواجهة الأخيرة ظهّرت عيوب الجيش الإسرائيلي وثغراته، وقصوره عن تحقيق وعوده وتهديداته، وتحديداً في ما يتعلّق "بالحسم والانتصار الساحق"، كما في "المناورة البرّية" التي ظلّت تل أبيب تتوعّد أعداءها بها، وخاصة في الساحة اللبنانية، فيما ظهّرت المعركة فشلاً استخبارياً ذريعاً في هذا المجال، وهو ما من شأنه الانسحاب على ساحات أخرى، إن تدحرجت الأمور معها إلى مواجهة.
على خلفية ما تَقدّم، يمكن القول إنه ما لم "تعالج" إسرائيل اعتقاد الفلسطينيين بأنهم انتصروا في المواجهة الأخيرة، وهم كذلك نسبياً، وما سيبنونه على هذا الاعتقاد من معادلات وتطلّعات من بينها الحلول مكان السلطة وكسر حصرية "تمثيلها" للشعب الفلسطيني، ومشاركة فعّالة في ديناميات محور المقاومة تأثّراً وتأثيراً وتعاضداً، فستكون النتيجة سيّئة، وسيّئة جدّاً لإسرائيل. في المقابل، لا يمكن للفلسطينيين، في ظلّ المعادلات الجديدة التي يرون أنها تحقّقت، القبول بأيّ عروض اقتصادية كانوا ليقبلوا بها في مراحل سابقة؛ فإذا رضيت الفصائل بما يُعرَض عليها حالياً في المفاوضات، تكون كَمَن أطلق النار على نفسه، وأنهى مكانته ووجوده. بناءً عليه، تُركّز إسرائيل، الآن، في مرحلة ما قبل المواجهة المقبلة، على مفاوضات تسعى من خلالها، وبمعيّة شركائها من "الوسطاء"، إلى إعادة حشر الفصائل داخل القطاع: كلّ أهداف إسرائيل ومصالحها، الأمنية والعسكرية والسياسية، وبطبيعة الحال أسراها ومفقودوها... مقابل هدوء طويل الأمد تلتزم به غزة. باختصار، المعادلة المطروحة هي إسقاط سلاح غزة مقابل عطاءات اقتصادية يُحظر على الفصائل الاستفادة منها تسليحاً واستعداداً عسكرياً، مقابل توظيفها لإعادة ترميم مكانة السلطة. إزاء ذلك، لا يمكن ترجيح التوصّل إلى "تسوية ما"، خصوصاً أن أهداف الجانبين من التفاوض متعارضة جدّاً.