لم تمضِ أيام على بدء الغارات الروسية في 30 أيلول الماضي، لتبدأ سلسلة مبادرات هجومية للجيش السوري وحلفائه. الاندفاعة الكبرى جاءت بعد تراجع «تُوِّج» في سقوط معظم محافظة إدلب ومدينة تدمر في البادية الحمصية.الجبهات العديدة التي فتحها الجيش بين معارك سيطرة وإشغال سمحت بقلب موازين الميدان، ليبدأ الحصاد بالتبيان: جبهة واسعة فُتحت في ريف حلب الجنوبي تبدأ من جنوب مدينة حلب حتى حدود ريف إدلب الشمالي، وإشغال لجبهات ريف حماه الشمالي واشتباكات قاسية في ريف اللاذقية الشمالي، ابتدأت مع معارك جب الأحمر وتلالها.
النجاح الذي ظهر في ريف حلب الشرقي مع فكّ الحصار عن مطار كويرس والوصول إلى تخوم مدينة الباب، بالتوازي مع الانهيار الكبير في ريف حلب الجنوبي (العيس ــ الحاضر ــ خان طومان...) ظهر أيضاً في ريف اللاذقية.
في المناطق الثلاث، لم تكن المعارك «كراً وفراً»، ولا هدفت إلى تثبيت مواقع محدّدة للحفاظ على مكاسب سابقة أو منع انهيار مشابه لأحداث إدلب في آذار من العام الماضي. المؤازرات التي مكّنت المسلحين، سابقاً، من استيعاب هجمات الجيش التي كانت تتركز على محور واحد، لم تعد ناجعة.
أصبح إقفال جبهات من عشرات الكيلومترات لإيقاف تمدّد الجيش وحلفائه أمراً انتحاريّاً. فالخطر على التنظيمات المسلحة يبدأ عند جبهة خان طومان وجبهة الحاضر والعيس، ومعظم طريق حلب ــ دمشق، مروراً بالإشغال في أرياف حماه، وصولاً إلى الجبهات المتعددة بين جبلي الأكراد والتركمان في ريف اللاذقية.
حرب المدن والسهول المنبسطة في غير مكان من سوريا كانت تتسّم ببطء شديد في تغيّر وضعية السيطرة أو القضم بهدف توسيع دائرة الحماية. لكن اليوم، أمر العمليات يوضح أنّ اندفاعة الجيش لن تتوقف قريباً.
مع السيطرة على بلدة ربيعة أمس، وما سبقها قبل أيام من تحرير سلمى، يوضح أنّ إعلان محافظة اللاذقية خالية من المسلحين هدف واضح وليس بعيد المنال.
وكلّ المعطيات تشي بأنّ اللاذقية تشكّل مرحلة أولى قبل «مرحلة إدلب»، من بوابة جسر الشغور. في المحصّلة، معظم الأهداف المحققة لمصلحة الجيش السوري حتى اليوم تصبّ في شِباك أنقرة. ففي ريف حلب الشرقي، أصبحت نيران الجيش في قلب «المنطقة الآمنة» التركية، بالتوازي مع سياسة «إقفال الحدود بالنار» التي تطبقها الطائرات الروسية في ضرب خطوط إمداد ومستودعات النفط والسلاح التابع للمعارضة المدعومة من خلف الحدود. واليوم يستفيق الأتراك على خسارة معاقل محسوبة عليهم بالجغرافيا و«الديموغرافيا». إقفال الحدود من الجوّ اقترب ليصبح من الأرض أيضاً، في حالة شبيهة بحال بلدة كسب حيث ينتشر الجنود السوريون على الشريط الحدودي.
بالنتيجة، إعلان اللاذقية «خالية» من المسلحين اقترب، وإبعاد خطرهم يعني تلقائياً «موجة» جديدة نحو ريف إدلب المحاذي انطلاقاً من الجبال، وموجة أخرى نحو السرمانية في شمال سهل الغاب، جنوب اشتبرق التي تبعد كيلومترين عن جسر الشغور.
في عام 2012، كانت التنظيمات المسلحة تشيع أنّها أصبحت في «القاعدة الأخيرة» للدولة السورية. وعادت «نظرية الانهيار الكبير» للظهور بعد وصول المسلحين إلى سهل الغاب صيف العام الماضي، وتصوير الساحل السوري كسجن كبير، وأن السيطرة عليه مسألة وقت. بعد أربع سنوات، تبدو جبال اللاذقية كـ«قاعدة أولى»، سينطلق منها الجيش نحو محافظة إدلب، بالتوازي مع إطباقه على معقل «القاعدة» الأكبر، من جبهة ريف حلب الجنوبي. المسألة لم تعد في تعداد قرى سقطت أو تحررت. الحرب تأخذ منحى تصاعدياً خطيراً بالنسبة الى جميع الأطراف، والاندفاعة القوية للجيش السوري ربما لن تقابلها سوى مغامرة خليجية ــ تركية جديدة.