أعاد الإعلان عن إطلاق سراح قائد عمليات غرب الأنبار في «الحشد الشعبي» العراقي، قاسم مصلح، الأمور إلى نصابها، ليس الذي كان قائماً قبل الاعتقال في 26 أيار الماضي، وإنما ذلك الذي سبق وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الوزراء منذ نحو عام، بعد التظاهرات الاحتجاجية التي دغدغت مخيّلة كثيرين بإمكان تغيير ميزان القوى في البلاد، برعاية أميركية – خليجية، وبمعزل عن أحقية مطالب المتظاهرين بمحاربة الفساد وتحسين مستوى حياة العراقيين. وبهذا، انتهى أقوى كباش سياسي – أمني بين تيّارَين كبيرَين يقتسمان الساحة العراقية ويسود بينهما توتر متصاعد، بلغ ذروته عند اعتقال مصلح بطريقة بوليسية استعراضية، وَضعت العراق على حافّة صدام قاسٍ داخل الطيف السياسي الذي تولّى السلطة بعد الانسحاب الأميركي في 2011. لم يكن التذرّع بتطبيق القانون لاعتقال مصلح سبباً مقنعاً للكثيرين، ولا سيما أن هناك آلية بين «الحشد» الذي هو جهة رسمية عراقية، وبين أجهزة الأمن الأخرى، تقضي بأن يتولّى أمن الأوّل التعامل مع القضايا التي تخصّ قادته، بإشراف القضاء. وجرى الإخلال بهذه الآلية من خلال إسناد مهمّة الاعتقال إلى وكيل وزارة الداخلية لشؤون الاستخبارات، أحمد أبو رغيف، الذي عيّنه الكاظمي في منصبه هذا قبل أشهر قليلة. ما جرى أمس من إعلان عن إفراج القضاء العراقي عن مصلح لـ»عدم كفاية الأدلة»، ما هو، بحسب الرواية «الحشدية»، إلّا إخراج لتسوية جرت في اليوم الأول للاعتقال لم يتمّ الإعلان عنها، وقضت بتسليم مصلح إلى قيادة «الحشد»، على إثر تطويق عشرات الآليات التابعة للأخير المنطقة الخضراء، والتهديد باقتحامها لإخراج القيادي المعتقل بالقوّة إن لم يتمّ إطلاق سراحه، وهو، أي التطويق، تطوّرٌ حتّم التسوية أيضاً (التي اتّخذت، طِبْق رواية أخرى، صورة لجنة مشتركة من مؤسّسات أمنية وعسكرية للتحقيق في القضية)، حفاظاً على هيبة منصب رئيس الوزراء وهيبة الدولة، علماً بأن مصادر قيادية في «الحشد» رأت أن توريط الأميركيين الكاظمي في هذه الأزمة هو الذي يضرب هيبة الدولة، وليس تصرّف «الحشد» الذي جاء كردّ فعل.
لم يكن التذرّع بتطبيق القانون لاعتقال مصلح سبباً مقنعاً للكثيرين


منذ الاعتقال، عمدت السلطات المسؤولة عن العملية إلى إطلاق تسريبات تفيد بأن التهم المنسوبة إلى مصلح تتضمّن قتل ناشطين عراقيين من قادة التظاهرات، وذلك في محاولة لوضع «الحشد» في مواجهة المتظاهرين، علماً بأن التعامل مع التظاهرات كان ولا يزال مسؤولية قوات الأمن العراقية التي تعمل بإمرة الكاظمي، ولا علاقة للحشد به. لكن دحض تهمة قتل الناشطين المُوجَّهة إلى مصلح، جاء من قِبَل رئيس «مجلس القضاء الأعلى»، فائق زيدان، الذي أكد لمُمثّلي تنسيقيات تظاهرات تشرين أنه «لا يمكن إصدار أيّ قرار قضائي من دون الاستناد إلى أدلة معتبَرة قانوناً، بعيداً عن أيّ تدخُّل في عمل القضاء». وتصطدم مساعي الكاظمي لتحجيم دور «الحشد الشعبي» بحقيقة أن المهمّة التي أنشئ من أجلها الأخير، وهي القضاء على تنظيم «داعش»، لا تزال غير ناجزة تماماً، إذ يُطلّ التنظيم بين حين وآخر عبر تفجيرات دامية تستهدف بغداد خاصة. ولا يمكن فصل الاعتقال عن الظروف المزامنة له، ولا سيما الاستعدادات لإجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة المُقرَّرة في العاشر من تشرين الأول المقبل، والتي يأمل من خلالها فريق الكاظمي أيضاً تغيير ميزان القوى، لكن الإفراج عن مصلح يُضعف هذه الآمال، وربّما يزيد من فرص تأجيل الانتخابات.
الأخطر هو ما جرى تسريبه عن مشاركة عناصر من «المارينز» الأميركي في اعتقال مصلح، والذي انعكس في تهليل وسائل الإعلام المُموَّلة أميركياً، مثل قناة «الحرة»، للعملية، وكذلك تلك السعودية. وسواء شارك «المارينز» أو لا، فإن مصلح مناهض للاحتلال الأميركي منذ عام 2003، ولربّما هذه هي التهمة الوحيدة الصحيحة ضدّه. لكنها تأتي مشفوعة أميركياً باتهامه مباشرة بالمسؤولية عن قصف قاعدة «عين الأسد» التي تؤوي جنوداً أميركيين وغربيين في غرب العراق. وتزامنت تطورات قضية مصلح، أيضاً، مع الاجتماع الأول للجان الفنّية العراقية - الأميركية لبحث جدولة انسحاب قوات الاحتلال التي عادت إلى هذا البلد في عام 2014 بحجّة محاربة «داعش»، بقرار اتّخذه الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بعدما أقرّ بأن انسحاب 2011 الذي قرّره بنفسه كان «سابقاً لأوانه». وقد أوضح الأميركيون أنهم يريدون البقاء استراتيجياً في العراق، وربّما في أحسن الأحوال يتمّ تحويل مهمّة قواتهم إلى مهمّة استشارية دائمة، وهو ما تميل حكومة الكاظمي إلى الموافقة عليه، على رغم معارضة غالبية القوى السياسية العراقية لبقاء الاحتلال بأيّ صورة من الصور. ولم تتخذ أيّ قرارات في الاجتماع الذي انعقد السبت الماضي، ليتمّ الاتفاق على عقد اجتماع ثانٍ في تموز أو آب المقبلين، لكن من غير المتوقّع اتخاذ أيّ قرارات في شأن إعادة الانتشار الأميركي قبل موعد الانتخابات العراقية.