عمّان | اختتم وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، زيارته للمنطقة في الأردن، بعدما التقى «الأطراف ذوي العلاقة المباشرة» بالتطوّرات الأخيرة في فلسطين. تصريحات بلينكن في محطّاته لم تخرج عن المألوف بالنسبة إلى عمّان، التي كانت تترقّب من الزيارة الحصول على دور ــ ولو شكلي ــ يعيد إليها رمزيتها في هذه القضية، بعدما تراجعت مع توقّف مفاوضات السلام في ولاية باراك أوباما الأولى، ولا سيما أن المحرّك الرئيس للحدث حالياً هو المقاومة في غزة التي تتفرّد مصر بالتواصل معها منذ سنوات بحكم تفاهمات بين عمّان والقاهرة، تحوز الأولى بموجبها الدور الأكبر في الضفة والتواصل مع السلطة. من هنا، كان الاحتفاء بتصريح بلينكن من القدس حين قال إن «للأردن دوره الأساسي في السلام والاستقرار في المنطقة». [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
وكان الملك عبد الله الثاني قد استبق زيارة الوفد الأميركي بعقد مشاورات مع طواقمه التشريعية والتنفيذية، ركّزت على مطالب المملكة المتمثّلة في «هدنة ممتدة»، ومنح الأردن دوراً في إعادة الإعمار في القطاع، وبطبيعة الحال تثبيت الوصاية الهاشمية التي باتت لا تعني شيئاً في خضمّ الأحداث الأخيرة، إلّا ضمن مساحة أكبر ترصدها المقاومة في غزة ولبنان وربّما إيران، وهو ما يستوجب قراءة جديدة تطرّق إليها محسوبون على دوائر القرار، ومنهم رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، والكاتب فهد الخيطان الذي تسلّم منصبه الجديد في الديوان الملكي مسؤولاً عن الملف الإعلامي، ليقول بدوره إن المملكة تريد أن تكون ضمن محور واحد مكوّن من العراق ومصر «مع ضرورة إشراك سوريا».
كلّ هذا يعني انفتاحاً على اللاعبين الجدد الذين قلبوا المعادلة المعتادة في تحالفات القصر. ومن هنا تُفهم المحادثات التي أجرتها المخابرات الأردنية مع حركة «حماس»، مع أن المطلوب محادثات أوسع تُمتّن العلاقة بالجناح السياسي الذي قابل الأردن بإشارات إيجابية متعلّقة بالوصاية الهاشمية. وعلى الجانب الآخر، يراقب القصر ما يحدث في القدس بعين المسؤول، والقدس هنا هي مساحة الحرم المتمثّلة في 144 دونماً، وأي مساس بالوضع القائم يصيب شرعية الحكم الملَكي بمقتل، ولذلك لا يبخل ملوك الأردن على المساحة المذكورة بالسجّاد والدهان والإسمنت اللازم لعمليات الترميم، كما تعتني وزارة الأوقاف ــ بإشراف ملَكي مباشر ــ بإدارة المكان، وتُعيّن لجانه المحسوبة على الدولة الأردنية أو السلطة.
وفي المستجدّات الخاصة بوضع القدس، تبدو الخيارات مفتوحة على إدراج أسماء شخصيات جديدة مِمَّن عليها إجماع وتوافق شعبي، وهي بطبيعة الحال ليست من رجال السلطة في المدينة، وربّما تكون أقرب إلى «حماس» التي تفضّل أيّ جهة تأخذ قضية الحرم على محمل الجدّ على البديل الذي لن يكون إلا إسرائيلياً، وقد يجعل ذلك الحركة تقبَل حتى بالدور الأردني على الصعيد السياسي. أمّا على الصعيد الشعبي، فأهل القدس لا يثقون بالجانب الأردني، ويتصدّون مباشرة لأيّ اعتداء إسرائيلي. على أيّ حال، سعى الأردن بكامل جهوده إلى تجنّب سيناريو أيلول/ سبتمبر 2000، لكن هذه المرّة خرجت الأمور عن سيطرته، ولم ينفع استدعاء الخارجية الأردنية القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية لدى عمّان في تأكيد احتجاج الحكومة وإدانتها للانتهاكات المتواصلة في الحرم والاعتداءات الأخيرة على المقدسيين، فاضطرت الخارجية إلى استدعاء السفير، ولا سيما بعد ما تسرّب من مجريات التحقيق مع المتسلّلَين الأردنيَين والظروف السيئة التي يمرّان بها، عدا استمرار الانتهاكات في القدس.
تحسين العلاقة مع «حماس» يعني حكماً تحسينها مع «إخوان الأردن»


على خطّ موازٍ، بدا واضحاً ضعف رام الله التي ظهرت أشبه بـ»حصان خاسر»، لن تغامر عمّان في ربط نفسها به، لتغرق معه بعد النصر الذي حقّقته المقاومة. وحتى إن بقيت السلطة موجودة بهيكليّتها نفسها، فإن المملكة معنيّة بعقد انتخابات سريعة تفرز قيادة مقبولة دولياً وفلسطينياً، وهذا يعني قيادة مقبولة لدى «حماس». لذلك، وإن بدا التواصل الأردني مع السلطة كثيفاً، ولا سيما بوجود الوفد الأميركي في المنطقة، فإن عمّان تُوجّه أنظارها إلى غزة، متجاوِزةً رام الله التي زار وزير خارجيتها، رياض المالكي، عمّان، والتقى نظيره أيمن الصفدي، ثمّ حمل الأخير رسالة إلى رئيس السلطة محمود عباس. وإن كانت هذه الجولات تحمل الخطوط العريضة لـ«حلّ الدولتين»، فإن المطلوب أردنياً الآن موطئ قدم في غزة لا يمرّ عبر رام الله، وهو ما دونه تحفُّظ القاهرة على دخول لاعبين آخرين في القطاع، ما يجعل عمّان تطرق الباب الإنساني وإعادة الإعمار.
على صعيد العلاقة مع «حماس»، هي ليست بجديدة، بل تحتكم إلى تاريخ قديم تضاءلت فاعليته بخروج الحركة من عباءة «الإخوان المسلمون» في الأردن بعد اندلاع الحرب في سوريا، وانضمامها إلى اللعبة السياسية كتيار إسلام سياسي له أولوياته التي تجاوزت فلسطين. هذا الشرخ بدأ بإغلاق مكاتب الحركة في عمّان، ثمّ خروج ممثّليها بدءاً بخالد مشعل، وتعمّق خلال رئاسة محمد مرسي، لتصبّ الدولة غضبها على «الإخوان» وتستهدفهم بالتفتيت والانشقاقات، وليشهد التيار السياسي «الحمساوي»، بعد تراجع المشروع التقسيمي في سوريا، نفسه في أسوأ وضع. ولولا التيار العسكري، لربّما اختفت الحركة سياسياً أو تحولت إلى وضع شبيه بالسلطة. هذه المؤشّرات تبدو واضحة لعمّان، التي عادت إلى الانفتاح على «حماس» وشاركت بطريقة ما في جولات التهدئة الأخيرة. والملاحظ في تصريحات مشعل، وكذلك إسماعيل هنية، الرسائل الإيجابية لعمّان، مع تأكيد الدور الأردني في الحرم القدسي، وهذا بالضرورة بترتيب مع القطريين الذين دعموا الوصاية الهاشمية في مجال مناكفتهم السعوديين، وكان معهم في المحور تركيا التي دعمت الأردن لإبقاء المسجد الأقصى ضمن «عباءة سنيّة».
داخلياً، كانت واضحة تحرّكات «الإخوان» المنفردة بأعلامهم، ما يعني عودتهم إلى حضن الدولة وفق تفاهمات ستبرز معالمها لاحقاً، وبمباركة من الدوحة وأنقرة، فعمّان أيضاً بحاجة إليهم وتريد أن تستثمر فيهم بعد حادثة «الفتنة» التي جعلت البلاد أقرب إلى قطر. إلّا أنه لن يتمّ تحسين العلاقة معهم إلّا بتحسين وضع «الإخوان» عامة و«حماس» خاصة، لذا لن يضير الأردن بعض الإطراء على الحركة، ولا تبادل الإشارات الإيجابية معها، خاصة بعدما بدأت العواصم الأوروبية الانفتاح على الأخيرة كقوة أمر واقع في غزة. ومع جرعة تفاؤل إضافية، ربّما لن يكون لدى الأردن مانع في إعطاء «حماس» دوراً سياسياً محدوداً في الضفة، على عكس الموقف تماماً حين حذّرت عمّان رام الله من نتائج فوز غريمتها في الانتخابات، لكن كلّ هذا الانفتاح سيبقى ضمن خطوط العلاقة مع إسرائيل.