حرص الأمين العام لـ»حزب الله»، السيد حسن نصرالله، بمناسبة عيد المقاومة والتحرير، على الإسهاب في شرح معالم إنجازات المقاومة في قطاع غزة، ومصاديق الفشل الإسرائيلي. ولم يفوِّت، أيضاً، فرصة التصويب على عقيدة رئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، التي عمل على الترويج لها طوال السنتين الماضيتين باعتبارها الاستراتيجية المُثلى لتحقيق النصر في مواجهة «حزب الله» والمقاومة في غزة. خصوصية التقييم السريع الذي قدّمه نصرالله تنبع من كون معركة «سيف القدس» شكّلت محّطة لاختبار فعّالية تلك العقيدة القتالية وجدواها للمرّة الأولى منذ إعلانها، كما أتت بعد سنوات طويلة من الإعداد التراكمي لدى جيش العدو، وتحديداً بعد نحو 16 عاماً من حرب عام 2006، التي مثّلت تحوّلاً في قواعد المواجهة، ومنطلقاً لإعادة بناء قدرات الجيش الإسرائيلي وتطويرها، وأيضاً في أعقاب، وبالتوازي، مع مناورات غير مسبوقة منذ عقود، وعلى إثر تباهي القادة والضبّاط والخبراء بمستوى التطوّر الذي بلغته جهوزية الجيش. يعني ذلك أن إسرائيل كانت في ذروة قوتها العسكرية، وهو ما سبق أن عبّر عنه كوخافي نفسه بأربع كلمات قصيرة: «جيش ناجع، فتّاك، وذكي» من أجل تحقيق النصر، في مواجهة مَن يُفترض أنها «الحلقة الأضعف» بالمقارنة مع قوى المقاومة ومحورها، لأسباب جغرافية وديموغرافية وعسكرية.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
حدَّد كوخافي خطوط عقيدته، بإلحاق الهزيمة بأعداء إسرائيل عبر القضاء على قدراتهم العسكرية ومُشغّليها من فوق الأرض ومن تحتها (الأنفاق)، بواسطة سلاح فتّاك ودقيق يجسّد ثمرة التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي، على أن يتمّ ذلك في أسرع وقت مع أقلّ الخسائر. ومن أجل توفير مقتضيات رفع مستوى الجهوزية على أساس تلك العقيدة، تمّت بلورة خطّة بناء القوة المتعدّدة السنوات «تنوفا/ زخم»، التي لا تزال تواجه تحدّيات بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تعيشها إسرائيل. ونتيجة إدراك القيادتَين السياسية والعسكرية محدودية فعّالية الاستهداف عن بعد، روَّجت إسرائيل، في هذا السياق، بأن الجيش أصبح مستعدّاً لشنّ مناورة برّية سريعة وفي العمق، من أجل تحقيق الفتك الذي يكفل النصر. وتمظهرت المعالم التفصيلية للعقيدة المذكورة في خلاصة سلسلة ورش استمرّت لأشهر ممتدّة، وبدت إسرائيل في أعقابها كما لو أنها اكتشفت الدواء السحري للانتصار على المقاومة في لبنان وفلسطين. والجدير ذكره، هنا، أن مفهوم كوخافي العملياتي أتى كبديل من استراتيجية الحسم العسكري التقليدي الذي يقوم على احتلال الأرض وتدمير القدرات وسلب العدو إرادة القتال. إذ إن هذه الاستراتيجية تحطّمت بداية في مواجهة المقاومة في لبنان إلى حين تحرير عام 2000، ومن ثمّ في حرب عام 2006، ثمّ تَكرّر فشلها في مواجهات متتالية في قطاع غزة.
ومن أجل تقييم جدوى وفعالية عقيدة كوخافي القائمة على الفتك المستند إلى الأسلحة الدقيقة، لا بدّ من عرض أبرز معالم النتائج التي خلصت إليها الجولة الأخيرة مع المقاومة في غزة. من بين أوضح تلك النتائج التي لا تحتاج إلى شرح وتفصيل، أن جيش العدو فشل في تدمير القدرات العسكرية للمقاومة، وهو ما لم يدَّعه أحد في الكيان العبري. لم ينجح الجيش الإسرائيلي، حتى، في إضعاف قدرات المقاومة بالمستوى الذي يمكن أن يراهن معه على نتائجه، وهو ما ظهر جلياً حتى اليوم الأخير في استمرار الصليات الصاروخية، التي كانت ستتواصل أيضاً لو استمرّ القتال، فيما تؤكد الجولات العسكرية السابقة أنه في أعقاب كلّ منها تخرج المقاومة أكثر جهوزية واستعداداً للجولة اللاحقة. أقرَّ العدو، مثلاً، بفشله في إلحاق خسائر بشرية كبيرة بالمقاومة، من خلال خطّة عسكرية كان قد أعدّها منذ ثلاث سنوات، خلاصتها إشاعة بدء اجتياح برّي للقطاع، بهدف دفع الكوادر والمقاومين للدخول في الأنفاق التي يقول إنه شخَّصها مسبقاً، من أجل تدميرها عليهم. وكان التقدير أن ذلك سيؤدي إلى استشهاد مئات المقاومين. وبالفعل، تمّ تنفيذ كلّ عناصر تلك الخطة، من الترويج للعملية البرّية إلى الغارات الجوية المكثّفة والمركّزة، لكنّ النتيجة أن المقاومين لم يقعوا في الفخ.
فشل جيش العدو في تدمير القدرات العسكرية للمقاومة، وهو ما لم يدَّعه أحد في الكيان العبري


يقوِّض هذا الفشل عنصرَين أساسيَّين في النظرية الأمنية الإسرائيلية، أحدهما يتّصل بالإنذار الاستخباري الذي ترتّب عليه فشل عملياتي. إذ فشِل الجيش والاستخبارات ليس في تقدير نيّات المقاومة - بدءاً من أصل المبادرة إلى قصف العمق... - فقط، بل وأيضاً في تحديد الأهداف التي يؤدي ضربها إلى إحداث تغيير جذري في مجرى المعارك والمعادلة التي ستترتّب عليها. وهو ما تمّت مناقشته على طاولة المجلس الوزاري المصغّر، عندما انتقد عدد من الوزراء الجيش، على خلفية أن المعلومات الاستخبارية كانت «عديمة الفائدة»، وأنه لم يوفّر المعلومات التي تسمح بـ «تغيير الواقع» الميداني. كذلك، حرصت القيادتان السياسية والعسكرية، طوال أيّام القتال، على تجنُّب شنّ عملية برّية واسعة أو حتى محدودة. وهو ارتداع يعود - مهما حاول العدو تبريره - إلى مخاوفه من أن تؤدي أيّ عملية من هذا النوع إلى خسائر بشرية قد تستدرجه إلى مزيد من التورّط في جبهة لا يرى أن لها الأولوية، وستكون على حساب الاستعداد لمواجهة تهديدات أشدّ خطورة على الجبهة الشمالية وفي مواجهة إيران، فضلاً عن أن أفق معركة غزة مسدود أمامه، فهو ليست لديه أجوبة على أسئلة اليوم التالي لفرضية اجتياح القطاع، فضلاً عن الخسائر البشرية المؤلمة التي سيتعرّض لها. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن العدو لم ينجح في تعزيز قدرة ردعه، بل إن مبادرة قوى المقاومة للدفاع عن القدس أسقطت كلّ تقديراته حول الظروف الداخلية التي راهن على أنها ستُشكّل كوابح فاعلة للفصائل. كما أن ردّ المقاومة المتواصل عبر استهداف تل أبيب والعمق الإسرائيلي، أحبط الرهان على ردعها من خلال الضغط العسكري الذي استهدف المناطق المدنية.
يبقى أن من أبرز تجلّيات صمود المقاومة وتصميمها، اقتران انتهاء الجولة الحالية بمحافظة الفصائل على الإرادة والقدرة على مواصلة ضرباتها، وأيضاً الردّ على أيّ تجاوزات إسرائيلية لاحقة تستوجب ردّاً. وتنبع خصوصية هذه المسألة من كونها تُمثّل الشرط اللازم الذي لا غنى عنه لبلورة حضور ردّ المقاومة وفاعليته في حسابات مؤسّسات القرار السياسي والأمني في الكيان، في المرحلة التي تلي. إن مشهد الصواريخ، وهي تحلّق في سماء فلسطين فوق المدن والمستوطنات الإسرائيلية، سيحفر (بل حفر) في وعي العقل الجمعي الإسرائيلي، حول حجم التحوُّل الذي استجدّ على معادلات القوة. والسؤال الأكثر حضوراً وإقلاقاً للكيان، قادة ونخباً ومؤسّسات ورأياً عاماً، هو أنه إذا كانت المواجهة مع غزة كفيلة بشلّ أغلب مناطق العدو، فكيف سيكون الحال في حال نشبت مواجهة كبرى مع «حزب الله» ومحور المقاومة، حيث عندها لن يقتصر الأمر على شلّ المرافئ البحرية والجوّية وتعطيل حركة الحياة؟ وإذا ما لم تنجح عقيدة كوخافي القائمة على الفتك المادّي والبشري، من أجل تحقيق النصر، فماذا سيكون مصيرها ومصير الجيش والكيان الذي يستند إليها عندما سيتمّ الفتك بجبهته الداخلية الاستراتيجية والاقتصادية؟