دمشق | "كل متوقّعٍ آت" في الانتخابات الرئاسية السورية، حيث الغريب فيها مألوف والفائز معروف. صور المرشحين الثلاثة، غطّت جدران دمشق وما حولها، وبدا التحيّز فيها واضحاً للرئيس بشار الأسد وحملته. وبدت المشاعر بين الناس فيّاضة وعارمة. فالانتخابات، كما يأملون هم، وكما تم تصويرها في الإعلام، تُشبه الهبوط لأوّل مرة على سطح القمر، وتشكّل بداية مرحلة جديدة سيبيَضّ فيها وجه الرغيف، وترتفع الأجور، وتنخفض الأسعار، وتُحلُّ أزمة السكن، وتختفي مشاكل المواصلات، وقد آن للسوريين أن يستريحوا.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في جرمانا مثلاً، تُؤخذ بالاستعراض الذي يؤدّيه الناخبون قرب أحد مراكز الاقتراع، وتخشى، بفعل الحماسة المتدفّقة، من انتقال العدوى بفيروس "كورونا" بين الجموع لتصل إليك، فتتسلّل هارباً مبتعداً قليلاً، إلى حيث ينقشع ضباب الشعارات وتصبح الأمور أكثر وضوحاً. الحديث مع الناس، يُظهر أن السوريين الذين اختلفوا خلال الأزمة على كل شيء، اتفقوا، الأمس، على "تصفية الحساب" مع البلاد التي عاشوا فيها وأحبّوها ولم يغادروها. تصفية الحساب بالتصويت، باعتباره "صفعة للشامتين والمراهنين على السقوط"، وفق تعبيرهم.
أما دوما، أشهر وأكبر مدن الغوطة الشرقية، وصاحبة الحضور المخيف في أذهان السوريين، فقد شاركت في "الاستحقاق الوطني"، كما حرصت دمشق على تسميته. وتحوّل أهل دوما "التائبون" إلى مادّة للمفاخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تتحوّل المدينة إلى دائرة الضوء الوحيدة في البلاد لحظة وصول الأسد إلى مجلس البلدية للإدلاء بصوته، في خطوة تم الإعداد لها بعناية، وأُريد لها أن تكون رسالة إلى الخارج، وأن تكون بمثابة ممحاة للصورة الذهنية السيئة التي انطبعت في ذاكرة السوريين عن المدينة. فدوما، في الذاكرة الشعبية خلال الحرب، هي سجن "التوبة"، الذي ما زالت حكايات الناجين منه تروي قصص التعذيب فيه. ودوما، في الذاكرة الحديثة، هي استعراضات زهران علوش العسكرية. هي دوما التي احتاج السوريون، عند تحريرها، إلى قوات لـ"فضّ اشتباك" بين المُدافعين عن أهلها، والمُتهمين لهم بالخيانة.
مشاهد أمس قابلها المعارضون المقاطعون للانتخابات بالبقاء في منازلهم والمشاهدة بصمت


مشاهد أمس المنبعثة من الغوطة الشرقية، قابلها المعارضون من السوريين المقاطعين للانتخابات، بالبقاء في منازلهم والمشاهدة بصمت. دلّل على ذلك حجم الناخبين المتواضع مثلاً في جرمانا، مقارنة بعدد سكانها الذي يزيد على المليون ونصف مليون نسمة، لكن نصفهم من النازحين. على رغم ذلك، لم يكن الحصول على صوتٍ مُخالِف في المدينة الواقعة على أطراف دمشق بالأمر الصعب، فهذا وسام يقولها صراحة: "أنا مُحبَط ليس بسبب الانتخابات، هذه سياسة والحقائق فيها تتغيّر... أنا مُحبَط من الناس، من أين جاء هؤلاء بكل هذه السعادة والفرح، وقبل أيام فقط كانوا يغرقون في الشكوى والتذمّر من سوء الوضع؟".
"لم يتسنَّ لوليد المعلم رؤية جيران سوريا من العرب، وهم يُعيدون فتح سفاراتهم في دمشق، بعدما أشعلوا النار في ثوبها"، هذا ما قاله مصطفى، أحد المتوجّهين إلى صناديق الانتخاب، وقد تمسّك بطرف عباءته من جهة، وبمقولة "الدولة دائماً على حقّ" من الجهة الثانية، لدى سؤاله عن الدافع للمجيء والتصويت، ليعود بعد لحظات ويكشف لنا أنه يعيش مشاعر مختلطة حيال البلاد، تُراوح بين الشكّ واليقين، وأن الصداع يسكن رأسه من التعب وفي بطون أولاده قلقٌ بسبب الفقر والقلّة. ويضيف: "لم يعد وصل الليل بالنهار يكفيني لتأمين لقمة أولادي، كما لم تعد غالونات الماء التي نشتريها تكفي للطبخ والغسيل وسقاية الزريعة مثلما اعتدنا أن نفعل في الميادين (مسقط رأسه التي هُجِّر منها)، إذ هناك في دير الزور، كنّا نمتلك منزلاً وأرضاً وبئر ماء نسقي منها، أما اليوم فليس لدينا في جرمانا من حيلة سوى التسليم والرضا".
لا شيء مفهوماً تماماً، فدمشق ماضية في استحقاقاتها، وفي الدعاية لانفتاح عربي كبير على العاصمة ذات البنية الاجتماعية التي تدّعي التماسك والوحدة، وهي لا تملك من أمرها شيئاً سوى التعبير عن نفسها في هذه اللحظة الطارئة من الفرح. فمشاهد البؤس ما زالت هيَ هيَ، والنفوس ما زالت مفخّخة، والناس ما زالوا مستعدين بعد زوال موجة السعادة هذه، إلى أن يقاتل بعضُهم بعضاً من أجل الحصول على رغيف خبز أو العثور على مقعد في باص نقل داخلي. ولكن، وعلى رغم كل ما سبق، ومع كل طبقات التلوين والتجميل التي أُضيفت على وجه يوم أمس الانتخابي، نزل السوريون وانتخبوا رئيساً... فهل يتغير وجه الرغيف ويصبح طريّاً؟