حماية إسرائيل واحتواء المقاومة وإضعافها. هذا هو عنوان "الحراك الدبلوماسي" الذي بدأ بإشراف أميركي بعد دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ بين المقاومة الفلسطينية في غزة وجيش الاحتلال الصهيوني. تُحاول إدارة جو بايدن، اليوم، العودة إلى سياسة "رعاية الخداع" التي تخلّت عنها إدارة دونالد ترامب نتيجة اقتناعها بانتهاء القضية الفلسطينية وبإمكان العمل على بناء تحالف بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية، الخليجية أساساً، في مواجهة محور المقاومة، وفي مقدّمته إيران، في ظلّ تسارع مسار التطهير العرقي والاستيطان والضمّ الصهيوني في فلسطين. تظنّ إدارة بايدن أنها ستستطيع البناء على هذه "الإنجازات" والعمل على "تخفيض التوتّر" في الإقليم، عبر التوصّل إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي والتشجيع على مفاوضات بين الأخيرة والأنظمة الخليجية، تفضي إلى تخفيف التوتّرات في الحدّ الأدنى، لتتفرّغ هي لمعركتها الكبرى مع الصين وروسيا. لم تكن القضية الفلسطينية مدرجة على جدول أعمالها أبداً. لكن المفاجأة الاستراتيجية الحاسمة، المتمثّلة في انتفاضة الحجارة والصواريخ على امتداد الوطن المحتل، والتي أظهرت ديمومة القضية الفلسطينية وقوة مقاومتها وحيويتها ومركزيتها بالنسبة إلى شعوب الفضاء العربي - الإسلامي ولقطاعات معتبَرة من شعوب العالم بما فيها قطاعات متّسعة في قلب الولايات المتحدة، زعزعت مرتكزات توجُّهات إدارة بايدن. لكن المواقف الصادرة عن الرئيس الأميركي ووزير خارجيته الصهيوني، أنتوني بلينكن، بعد "سكوت المدافع"، تشي بتجذّر منطق الخداع في أوساط صنّاع القرار في واشنطن في تعاملهم مع قضية فلسطين، واقتناعهم بالقدرة على إحياء المقاربة نفسها التي اعتُمدت في زمن "عملية السلام" البائسة، التي خَدمت استمرار التطهير العرقي والاستيطان الصهيوني وتوسّعهما في القدس والضفة الغربية، وحوّلت السلطة الفلسطينية إلى مؤسّسة أمنية ملحَقة بالاحتلال. ولا شكّ في أن العقلية الاستعمارية المتغطرسة المسيطِرة في هذه الأوساط، هي سبب اعتقادها باحتمال انطلاء الخداع مرّة أخرى على مَن اكتوى بناره في العقود الثلاثة الماضية، وهي أيضاً ما يمنعها من وعي تحوّل الزمن، وقدرة قطاعات وازنة من الشعب، عند انخراطها في المواجهة مع الاحتلال، على تحفيز المقاومة على التدخّل عسكرياً فيها، وفرْض وقائع تتناقض مع مخطّطات إدارة بايدن وأولوياتها في المنطقة والعالم.
الخلاصة الأولى: ضرورة إضعاف المقاومة
اللافت في تصريحات جو بايدن ووزير خارجيته حول الجولة الجديدة من المواجهة في فلسطين، هو تطابق أبرز خلاصاتها مع التوصيات التي رفعها الجيش الصهيوني إلى قيادته السياسية، حيالها. وكان مسؤول أمني صهيوني كبير قد أعلن أن هذا الجيش قرّر "التوصية للقيادة السياسية بأن تكفّ عن تحويل المساعدات المالية التي تُقدّمها قطر إلى قطاع غزة عن طريق حماس. إمّا أن تتوقّف هذه المساعدات تماماً، وإمّا أن يتمّ تحويلها عن طريق السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس... ما كان قبل هذه العملية سيكون مختلفاً اليوم. لقد أعطينا يحيى السنوار فرصة ليعيد بناء قطاع غزة ويجعله بارقة أمل للفلسطينيين تُحقّق لهم الازدهار، لكنه خيّب الآمال. وبدلاً من استخدام الأموال والموارد للصرف على حاجات الناس، أقام صناعة حربية ومصانع صواريخ وأنفاقاً كانت بمثابة مدينة تحت الأرض تحتوي على مقرّات عسكرية لضبّاطها، يرتاحون فيها ويُوجّهون الصواريخ والعمليات العدائية الأخرى. ولذلك، فقد انتهت حماس بالنسبة إلينا". بايدن نطق بالكلام نفسه عندما قال إن "الأموال يجب ألّا تذهب إلى حماس". أمّا بلينكن، فقد رأى من جهته أن إدارته قادرة على العمل مع "الأطراف المستقلّين الموثوقين الذين يمكن أن يساعدوا في إعادة الإعمار والتنمية، وليس بعض السلطات شبه الحكومية التي لم تجلب سوى الخراب للشعب الفلسطيني. إنه سوء إدارة فادح لغزة أثناء تولّيها زمام الأمور.
يُفضّل أقطاب الإدارة الأميركية تجاهل الواقع الميداني الجديد في فلسطين

وبالطبع، فإن هذه الهجمات الصاروخية العشوائية على المدنيين الإسرائيليين أثارت الردّ، لأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها. التحدّي الحقيقي هنا هو مساعدة الفلسطينيين، خاصة الفلسطينيين المعتدلين". حرص المسؤولون الأميركيون، عند اندلاع المواجهة في فلسطين، على إبداء قدر من التمايز عن الموقف الإسرائيلي عندما عبّروا عن "قلقهم من إجلاء عائلات فلسطينية عن بيوتها في حيّ الشيخ جراح"، لكن عندما دخلت المقاومة في غزة على خطّ هذه المواجهة، وما تلازم مع ذلك من هبّة شعبية في الأراضي المحتلة عام 1948، أزالوا التمايز بلمح البصر، ليُمنح نتنياهو ضوءاً أخضر للتوحّش في غزة. غير أن عجزه بعد انقضاء الأسبوع الأول من المعركة عن منع المقاومة عن الاستمرار في إطلاق الصواريخ، التي اتّضح أن المقاومة باتت تمتلك منها ترسانة كبيرة وأكثر تطوّراً من السابق، فضلاً عن خطورة المغامرة بعملية برّية كانت ستعود بالويلات عليه وعلى جيشه، دفعت الإدارة الأميركية إلى حضّه على وقفها والسعي في ما بعد إلى تحقيق أهدافها، وفي طليعتها إضعاف المقاومة، بوسائل "سياسية". ويأتي السعي إلى تعويم السلطة الفلسطينية، عبر تقديم مساعدات إعادة إعمار غزة إليها، والتلويح بأن زيارة بلينكن إلى المنطقة خلال هذا الأسبوع ستتخلّلها مباحثات مع مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين وعرب بشأن "السبل الفضلى لإعادة إطلاق عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، لتندرج في إطار محاولات إضعاف المقاومة واحتوائها. تذكَّر المسؤولون الأميركيون حاجتهم إلى السلطة الفلسطينية عندما خرج الوضع في فلسطين عن السيطرة، بفضل فصائل المقاومة في غزة والهبّة الشعبية في مناطق مختلفة، وهم يظنّون أن بعضاً من المساعدات الإنسانية والوعود بالعودة إلى مسلسل المفاوضات"المستديمة" ستُمكّنهم من بلوغ غاياتهم.

سياق "سريع الاشتعال" بفضل معادلة الشعب والمقاومة
يُفضّل أقطاب الإدارة الأميركية تجاهل الواقع الميداني الجديد في فلسطين، ومن بين سماته البارزة دخول المقاومة في غزة على خطّ المواجهة بطلب من جماهير الشعب في حيّ الشيخ جراح وفي باحات المسجد الأقصى وفي أراضي الـ 1948، والتي رفعت جميعها شعار "يا غزة يالله، كرمال الله"، و"حط السيف قبال السيف، نحنا جنود محمد ضيف". الانفجار الشعبي العارم في مواجهة التطهير العرقي، في "الشيخ جراح" والأقصى، الذي يستبيحه الاحتلال بشكل متكرّر تمهيداً للسيطرة على باحاته، وحتى تحويله متحفاً إن تمكّن من ذلك في المستقبل، هو الذي حفّز المقاومة على الزجّ بإمكاناتها في المعركة. ينسى الكثيرون أن الشعب الفلسطيني، منذ أن انتقل مركز ثقل نضاله إلى داخل الوطن المحتلّ مع الانتفاضة الأولى، يسبق تنظيمات المقاومة إلى الصدام مع الاحتلال وهي تلحق به. ينطبق هذا الأمر أيضاً على الكثير من الثورات عبر التاريخ، التي تشتعل كهبّة شعبية بداية، لتلتحق التنظيمات السياسية بها في ما بعد، وتسعى إلى تنظيمها وقيادتها. جماهير الشعب الفلسطيني أطلقت انتفاضة الحجارة في 1987 في غزة والضفة، وفصائل المقاومة انضمّت إليها. تكرَّر الأمر مع انتفاضة الأقصى عام 2000، والتي سرعان ما تحوّلت إلى معركة مسلحة مع الاحتلال نتيجة للجوئه الواسع النطاق إلى القتل، واضطرار تنظيمات المقاومة إلى التصدّي له دفاعاً عن الشعب. هل ستَقبل إسرائيل، بقيادة الحكومة الحالية أو بأخرى جديدة، بوقف التطهير العرقي والاستيطان والضمّ في القدس والضفة، بدءاً بحيّ الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى؟ لقد أدرك الشعب الفلسطيني مرّة أخرى أن بمقدوره عبر الصدام المباشر مع الاحتلال أن يراكم مكاسب سياسية وميدانية ومعنوية، ويعيد فرض قضيته على جدول أعمال جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين، مهما غلت التضحيات. مَن يعتقد أن بمقدوره خنق المقاومة في غزة، عليه أن يعي أن فلسطين برمّتها مرشّحة للتحوّل إلى بركان.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا