لم يكن ثمّة ما يشير إلى إمكانية أن تؤجّل دمشق انتخاباتها الرئاسية الحالية. فإلى جانب الظروف السياسية والميدانية التي تبدو أفضل بكثير من تلك التي رافقت انتخابات عام 2014، تُصرّ دمشق على التعامل مع رئاسيات عام 2021 كواحد من استحقاقات دستورية داخلية، حرصت منذ بداية الأزمة على الالتزام بمواعيدها، سواء بالنسبة إلى انتخابات مجلس الشعب التي جرت ثلاث مرات خلال سنوات الحرب، أو بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها للمرّة الثانية غداً. وهذا، بطبيعة الحال، لا يروق العديد من الدول الغربية، التي تعتبر أن تنظيم الانتخابات في هذه المرحلة بمنزلة تحدٍّ أو تجاوز لأجندتها حيال سبل حلّ الأزمة السورية. وعليه، فإن الفترة الرئاسية الجديدة ستشهد تصاعداً في وتيرة الضغوط الغربية على دمشق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وتالياً فإن التحدّيات التي ستواجه الرئيس القادم لن تكون "عادية" على المستويَين الداخلي والخارجي. وربّما ما حملته تطوّرات الأيام القليلة الماضية تشي بذلك، إذ إن الحديث عن انفتاح سياسي مرتقب في علاقات سوريا مع بعض الدول العربية، قابله أخيراً مشروع قرار غربي غير معتاد في تاريخ "منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية"، لم يُطرح حتى في ذروة الاتهامات الغربية لدمشق باستخدام السلاح الكيميائي، وتهديدها بعمل عسكري ضدّها.
الاقتصاد أولاً
كثيرة هي الأولويات الداخلية التي تفرض نفسها على الرئيس ما بعد انتخابات الغد، بدءاً من معالجة الوضع الاقتصادي الذي يشهد تدهوراً خطيراً منذ نهاية عام 2019 بسبب عدّة عوامل، مروراً بمحاربة الفساد المستشري وما خَلْفه من طبقة تستنزف الثروات الوطنية وتسرق قوتَ الناس، وصولاً إلى استعادة الدولة هيبتها وتجاوز ترْكة الحرب الثقيلة اجتماعياً وثقافياً. وبحسب الخبير الأممي، وزير الزراعة الأسبق الدكتور نور الدين منى، فإن هنالك ثلاثة ملفّات أساسية هي الأكثر إلحاحاً على الرئيس في المرحلة المقبلة، اثنان منها يتعلّقان بالوضع الداخلي، والثالث بالتداعيات المحتملة للموقف الغربي من الانتخابات. يقول منى: "داخلياً، يتصدّر الملف الاقتصادي والمعيشي، حيث الأولوية اليوم هي لتوفير احتياجات المواطنين وتحسين مداخيلهم وقوّتهم الشرائية، وهذا من شأنه تخفيف الاحتقان الشعبي وتعزيز ثقة المواطن بمؤسّساته الوطنية. وهنالك أيضاً ما يتعلّق بإطلاق الطاقات الإنتاجية للبلاد في مختلف القطاعات الاقتصادية، إذ من دون الإنتاج، لن تتمكّن البلاد من مواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية". ويضيف في حديثه إلى "الأخبار": "الملفّ الثاني يتعلّق بمكافحة الفساد، وتحقيق اختراق مهمّ في هذا الملف من شأنه أن يحدث أثراً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً، والمعالجة يمكن أن تتمّ عبر السير في محورَين: الأول ملاحقة ملفّات الفساد ومحاسبة المتورّطين فيها بعيداً عن أيّ انتقائية، والمحور الثاني هو في تطوير البنية التشريعية وآليات العمل التي تمنع وقوع الفساد، الذي هو في النهاية عبارة عن نتاج لغياب القانون أو ضعفه أو عدم تطبيقه".
من أهمّ التحديات القادمة استعادة الدولة هيبتها وتجاوز ترْكة الحرب الثقيلة


بدورها، تتعمّق الباحثة الاقتصادية، الدكتورة رشا سيروب، بشكل أكبر في تفاصيل الملفّين، وتشير إلى أنه "نتيجة للحرب، وما سبقها من سياسات اقتصادية غير مدروسة، يواجه الاقتصاد السوري والمواطن جملة من الصعوبات والتحدّيات المعقّدة، والعديد من القضايا الاقتصادية الشائكة والملحّة، التي ستفرض نفسها حكماً على الرئيس القادم، ويأتي في مقدّمتها العدالة الاجتماعية والتعافي السريع للاقتصاد. وهذا يتطلّب بدايةً توجيه السياسات الاقتصادية لمصلحة إعادة خلق الطبقة الوسطى، بالنظر إلى كونها دعامة بناء ونهضة أيّ اقتصاد ورخاء في المجتمع". وتضيف، في حديثها إلى "الأخبار"، إن من القضايا الملحّة كذلك "زيادة الحدّ الأدنى للرواتب، والعمل على إيجاد صيغة توافقية بين الأرباح والأجور، بحيث تضمن تحسين المستوى المعاشي للعاملين وتنشيط الإنتاج المحلي، مع رفد الخزانة العامة بالموارد المالية الكفيلة بتعزيز قوة الدولة ومؤسّساتها الاقتصادية وتحسين نوعية خدماتها". وتعتبر سيروب أن العمل على كشف ملفّات الفساد ومحاسبة كبار الشخصيات التي ساهمت وأضرّت بالاقتصاد الوطني وأثّرت على عموم المواطنين، "ضرورة لبناء الثقة المفقودة بالمؤسّسات الاقتصادية للدولة، والثقة هي صمام الأمان لنجاح تنفيذ أيّ سياسة اقتصادية مقترحة لاحقاً، مالية ونقدية وتجارية".

محاولة "إسقاط" الشرعية
خارجياً، يبدو أن الأمر سيكون مختلفاً عمّا كان عليه في أعقاب انتخابات عام 2014، فالرهان على إسقاط "النظام" عسكرياً لم يعد قائماً كما في السابق، وتالياً فإن التوقّعات تذهب باتجاه ترشيح سيناريو بديل، يقوم على ممارسة الغرب مزيداً من الضغوط السياسية والاقتصادية على دمشق. ومن هنا، فإن أوّل التحديات الخارجية التي ستكون حاضرة على طاولة الرئيس، بحسب الصحافي غازي سلامة، "تندرج في عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات، كما أعلنت واشنطن وعواصم أوروبية، وهو موقف يُنتج بدوره تحدّياً كبيراً، يتمثّل في استمرار العقوبات وعدم المساهمة في إعادة بناء ما خلّفته الحرب، في حين يرى بعض السياسيين في دمشق أن عدم إجراء الانتخابات سيضعنا أمام الفراغ الدستوري، ما يشكّل أزمة إضافية. وفي هذه الأثناء، تتدحرج اللجنة الدستورية في جنيف من دون أيّ تقدُّم حتى الآن، فمَن ينتظر مَن؟". ويضيف سلامة، في حديثه إلى "الأخبار"، إن "من التحدّيات الماثلة في المرحلة المقبلة، وجود مناطق خارج سيطرة الحكومة تحتلّها القوات التركية وجبهة النصرة ومجاميع مسلّحة متحالفة معها، وكذلك في شمال شرق البلاد حيث قسد المدعومة بقوات أميركية، إضافة إلى خلايا نائمة من داعش، انتهت إلى استخدام وظيفي لممارسة ضغوط إضافية على دمشق لتحقيق تنازلات مؤلمة".
ومع أن عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات ليس بجديد، إلّا أنه هذه المرّة قد يكون مقدّمة لإجراءات جديدة، تُشكّل بنظر الخبير الأممي الدكتور منى، ثالث الملفّات الاستراتيجية التي تنتظر الرئيس. إذ إن "بعض الدول الغربية قد تسير في مشروع لإسقاط شرعية الدولة السورية وتقليص حضورها على الساحة الدولية، ولمواجهة ذلك، على الدولة أن تُغيّر من ذهنيّتها في مقاربة مثل هذه التحدّيات، كالعمل على تدعيم الجبهة الداخلية بإعادة استقطاب الأدمغة والكفاءات الوطنية، بغضّ النظر عن موقفها السياسي. والمُقترح هنا أن يدعو الرئيس خلال الـ 100 يوم الأولى من رئاسته إلى مؤتمر وطني تُدعى إليه شخصيات وطنية فعّالة ومؤثّرة وذات ثقل شعبي، لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، والاتفاق على برنامج عمل وطني للمرحلة القادمة، ولا ننسى كذلك التنسيق المستمر مع الأصدقاء الدوليين لمواجهة أيّ سيناريو غربي يضرّ بمستقبل الدولة السورية". وفي السياق نفسه، يرى الصحافي سلامة أن "الخروج من حالة الاستعصاء الراهنة يتوقّف على تفاهمات إقليمية ودولية مفتاحها الملفّ النووي الإيراني، عبر صفقة كبرى بين واشنطن وطهران، سترسم بدورها تسويات إقليمية، وقد بدأ دخانها الأبيض يعلو في سماء المنطقة عبر الرغبات المتبادلة بالعمل على حلحلة العقد المتأزّمة في طريق العودة إلى دمشق، وهكذا يمكن أن نرى في المرحلة المقبلة ما لم يكن متوقَّعاً".



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا