فاقت الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها إسرائيل في غضون أيّام قليلة، خسائر عدوان عام 2014. وفي جولة التصعيد هذه، أَغلقت مصانع ومطاعم ومنشآت سياحية أبوابها، فيما تقدَّم ما يزيد على 4500 مستوطن بدعاوى تعويضات من جرّاء الأضرار المباشرة التي لحقت بأعمالهم. أمّا أولئك الذين هربوا من جحيم الجنوب، فقابلتهم جهنّم شمالاً، بينما لم تنفع المبالغ الطائلة التي صُرفت على التحصين والملاجئ في حجب الثغرات التي افتُضحت حتّى في أقرب النقاط إلى غزة. هذا، باختصار، ما خلّفته عشرة أيّام من «حراسة الأسوار»، في واحدةٍ من أفشل الحروب التي تخوضها إسرائيل، والتي تستعرض «الأخبار» في ما يلي بعضاً من وجوه فضائحها
كشف تقرير نشره موقع «ذا ماركير» الاقتصادي الإسرائيلي، قبل يومين، أن أكثر من 4500 إسرائيلي تقدّموا بدعاوى لمصلحة الضرائب، يطالبون فيها بتعويضات من جرّاء الأضرار المباشرة التي لحقت بممتلكاتهم. وأفاد التقرير بأن المبلغ الإجمالي لدعاوى التعويضات بلغ أكثر من 200 مليون شيكل، 55% منها تتعلّق بتضرّر مبانٍ من جرّاء قصف المقاومة، و45% بالأضرار التي لحقت بالسيارات وممتلكات أخرى. وتوزّعت الدعاوى على مدينة عسقلان المحتلّة (1400 دعوى)، وأسدود (250 دعوى)، ووسط فلسطين المحتلّة (أكثر من 1600 دعوى). علاوة على ذلك، باتت منازل أكثر من 115 عائلة غير صالحة للسكن، وأُجلي سكّانها إلى مآوٍ موقّتة.
مَن يُعوّض؟ تقوم مصلحة الضرائب بواسطة «صندوق تعويضات ضريبة الأملاك»، الذي يملك رصيداً حالياً بقيمة 13 مليار شيكل، بتعويض المتضرّرين. وبحسب القانون الإسرائيلي، فإن أيّ مواطن أو شركة تتعرّض للضرر نتيجة الحرب، أو نتيجة التوتّرات الأمنية، يمكنهما رفع دعوى للمطالبة بتعويض خلال أسبوعين، على أن تُدفع التعويضات في غضون ثلاثة أشهر. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن سلطة الضرائب الإسرائيلية أعلنت، في اليوم الرابع للعدوان، أن «حجم الأضرار في الممتلكات نتيجة الصواريخ من قطاع غزة، بلغ نصف الأضرار المباشرة التي حصلت خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع في عام 2014، والذي استمرّ 51 يوماً»، وهو ما يدلّ على التطوّر النوعي في قُدرات المقاومة العسكرية، بالمقارنة مع عملية «البنيان المرصوص».
على المستوى العسكري، تكبّدت إسرائيل خسائر بلغت يومياً 120 مليون شيكل، أي أكثر من مليار شيكل حتى الآن (علماً بأن هذه الكلفة لا تتضمّن المبالغ الإضافية لقوات الأمن في نطاق تجنيد الاحتياط). وعشية عيد «الشفوعوت» (نزول التوراة)، نشر ناطق باسم جيش العدوّ أرقاماً تفيد بأن كلّ صاروخ اعتراضي استُهلك من منظومة «القبّة الحديدية» بلغت كلفته 50 ألف دولار، فيما وصل إجمالي الصواريخ الاعتراضية التي استُهلكت، حتى الآن، إلى 1150. وبحسب موقع «واللا» العبري، تشير تقديرات وزارة المالية إلى أن الجيش سيحتاج ما بين 1.5و2 مليار شيكل، على الأقلّ، لـ»عملية حارس الأسوار».
وفي سياق متّصل، بيّنت معطيات تحليل أجراه القسم الاقتصادي التابع لـ»اتحاد الصناعيين الإسرائيليين» أن الآثار الاقتصادية المترتّبة على كلّ يوم حرب، بلغت كلفتها 180 مليون شيكل؛ إذ إنه تبعاً لتعليمات الجبهة الداخلية، أُغلقت المصانع الموجودة في مرمى صواريخ المقاومة، في الجنوب وفي الداخل الإسرائيليَّين، وتوقّف العمّال فيها عن العمل. على أن هذه الكلفة لا تشمل الأضرار المباشرة للمنشآت الصناعية التي طالها قصف المقاومة، كما لا يوجد تقدير أوّلي بعد عن حجم الخسائر الاقتصادية التي طالت قطاعات سياحية، مثل المطاعم والمجمّعات التجارية والفنادق والمحالّ الخاصة في المنطقة الواقعة تحت مرمى الصواريخ، والتي أُغلق معظمها، أو توقّفت الحركة فيها بسبب الخشية من الصواريخ.
بلغ حجم الأضرار في الممتلكات، خلال أربعة أيام، نصف الأضرار المباشرة التي حصلت خلال عدوان عام 2014


ثغرات في التحصينات والملاجئ
في رسالة عاجلة بعثت بها عضو «الكنيست»، ميريف كوهن، من حزب «هناك مستقبل»، إلى وزير البناء والإسكان، يعكوف ليتسمان، قبل أربعة أيّام، طالبت النائبة بأن يُشكّل الوزير لجنة طوارئ في وزارته لتتعامل مع الثغرات الموجودة في وسائل الحماية داخل البيوت المقامة على بعد ما بين 7 إلى 40 كيلومتراً من غزة. ويبيّن تقرير «ذا ماركير» أنه منذ العدوان الأخير، «خصّصت إسرائيل أكثر من 1.5 مليار شيكل لإقامة أماكن محميّة في الجنوب. وبنت 10 آلاف ملجأ عمومي، فيما حصّنت 44 مستوطنة في غلاف غزة بشكل فعّال. وتركزت جهود التحصين في المنطقة التي تقع ضمن نطاق 7 كيلومترات من قطاع غزة».
وعلى رغم ذلك، توجّه، خلال الأسبوع الأخير، قائد الجبهة الداخلية الإسرائيلية برسالة إلى كلّ من وزير الأمن ورئيس الوزراء، أشار فيها إلى أن 10 آلاف مستوطن في عسقلان محرومون من الملاجئ الخاصة، وأن كلفة إعمار هذه الملاجئ تبلغ 1.4 مليار شيكل. كما أظهرت الرسالة أن مستوطنات: «أوهد»، «تسوحر»، «تلميه إلياهو»، «سديه نيتسان»، «أوريم»، «جفولوت»، و»تسأليم» لم تجد حلولاً، علماً بأن بعضها يقع على بعد مئات الأمتار من خطّ الـ7 كيلومترات من القطاع، المعرّف كمنطقة تحتاج إلى تحصين. وبحسب المعطيات، تبلغ كلفة التحصين لألف وحدة استيطانية في هذه المستوطنات، حوالى 100 مليون شيكل.

من «دلفة الجنوب» إلى «مزراب الشمال»
في ضوء القصف المستمرّ لمستعمرات غلاف غزة وعمق إسرائيل، نشر موقع «طيولي» (نزهتي) الإسرائيلي مجموعة من أسماء المواقع السياحية والفنادق والمطاعم، موجّهاً رسالة إلى مستوطني هذه المناطق للتمتُّع بالمواقع المذكورة مجاناً، أو الحصول على تخفيضات، «آملاً عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي قبل الحرب». وفي رسالته، كتب: «إذا كنتم تسكنون في نطاق 40 كيلومتراً من غزة، فإن وزيرة حماية البيئة، جيلا جامليئيل، قدَّمت لكم مبادرة لدخول مجّاني إلى المحميّات الطبيعية والحدائق القومية في إسرائيل». ولعلّ الأمر المثير للضحك هو أن ما قام به مستوطنو الجنوب يطابق مَثَل «من تحت الدلفة لتحت المزراب»؛ إذ إن أعداداً منهم تقضي وقتها، حالياً، في المنشآت السياحية في الشمال هرباً من صواريخ المقاومة في غزة، فيما دوّت صفارات الإنذار، قبل يومين، في «مسغاف عام» و»كريات شمونه»، بعد سقوط ستّ قذائف في منطقة قريبة داخل الأراضي اللبنانية، كما دوّت، أمس، في عكا وشفاعمر وخليج حيفا شمالاً، بعد وقوع صاروخين على الأقلّ في مناطق مفتوحة ضمن هذا النطاق.
وفي مقابلات مع سكّان الغلاف أجراها الصحافي ألموغ بن زخري لصحيفة «هآرتس»، قال الزوجان ألينيت وحازي سفايزة، اللذان يسكان في مستوطنة «كفار عزة»، إن «كلّ صفارة إنذار تؤدّي إلى انهيار نفسي، مع أننا نخضع لعلاج نفسي في مركز حصانة». وأضافا أن «اللحظة الأولى التي نسمع فيها الصفارة تكون دائماً إنذارية، الهلع المعروف - الذي نسيناه تقريباً... أملنا أن نعود إلى السرير بعدما سمعنا أوّل صفارة، غير أن القصف استمرّ. استيقظنا بأعين مندهشة، وخائبة. مرّة أخرى، دولة إسرائيل لا تنجح في منح الجنوب حياة طبيعية».

المعركة على الوعي: المقاومة انتصرت
ردّاً على كلام ضبّاط جيش الاحتلال الذين قالوا في أحد اجتماعات المجلس الوزاري المصغّر التي عُقدت في الأيام الأخيرة إنه «من الناحية العسكرية البحت، حقّقت إسرائيل في 50 ساعة ما لم تحقّقه في عملية الجرف الصامد (عدوان 2014) في 50 يوماً»، قال كبير المعلّقين في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، إن «حماس انتصرت في الحرب النفسية والمعركة على الوعي». واستشهد بدلائل قصف «عاصمة إسرائيل في يوم عيدها (يوم احتلال القدس وتوحيد شطرَيها)»، في إشارة إلى القصف الذي استهدف مدينة القدس المحتلّة بعد ساعتين من التهديد الذي أطلقه قائد المقاومة، محمد ضيف، في مبادرة غير مسبوقة في تاريخ الحرب مع العدوّ. يضاف إلى ذلك، قصف عمق إسرائيل (تل أبيب ومحيطها)، الذي أظهر «حماس» أمام الرأي العام العربي كـ»حامية للقدس والمقدّسات»، ما أشعل النار في قلب إسرائيل. وبحسبه، فإن «إسرائيل اليوم في قلب متاهةٍ؛ إذ لا نيّة صريحة في البدء بعملية برّية، ولا خطط للسيطرة على مناطق، ولا أحد يتوقّع رايات بيضاء تُرفع فوق منازل الغزيين». من جهته، اعتبر رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، ألوف بن، أن «حارس الأسوار» هي «الحرب الأكثر فشلاً في تاريخ إسرائيل». كما أنها، بحسبه، «كشفت مكامن فشل عسكري وسياسي خطيرَين، فضلاً عن الإخفاق في استعداد الجيش وأدائه بقيادة حكومة مرتبكة وعاجزة». وفي مقالته، رأى بن أن إسرائيل تهدر الوقت في البحث عن «صورة انتصار»، داعياً إلى «وقف فوري للحرب، وإجراء فحص جذري في قلب بيت الجيش الإسرائيلي»، قبل أن يستدرك بالقول: «لا يوجد لنتنياهو، المتّهم بمخالفات جنائية، أيّ قوّة سياسية لصنع تغيير ضروري».
حربُ «حارس الأسوار»، المشتقّة تسميتها من أغنية عبرية تحمل الاسم نفسه لليور فرحي، أنست الجنود «ما تعلّموه في الصفّ»... فالجندي لم يَعُد يقف فوق الأسوار «لمجرّد النظر»، فيما جلبة السوق التي كانت تصل إلى مسمعه باتت مليئة بأصوات القنابل.. «نعم، نعم، من حلم حينئذٍ في الصفّ، عندما تعلّمنا حراسة أسوارك يا قُدس». ها هم الجنود قد استفاقوا من حلمهم أخيراً!



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا